العودة   منتدى اللحالي > نسمــات إيمـانـية > هدي الحبيب > صور من حياة التابعيــن

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
المشاركة السابقة   المشاركة التالية
قديم 02-18-2015, 01:39 AM   #1
اللحالي
مالك الموقع
 
الصورة الرمزية اللحالي
 
تاريخ التسجيل: May 2014
المشاركات: 6,559

اوسمتي

افتراضي العلامة ابن سعدي

المقـدمــة
الحمد لله الذي رفع مكانة العلماء العاملين، فقال عزوجل: [يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ]([1])، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، إمام العلماء، وقائد المصلحين، القائل في سنته الغراء،: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سلك الله به طريقاً إلى الجنة)([2])، صلى الله عليه وعلى أله وأصحابه العلماء العاملين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فكم شوَّه كثير من المسلمين اليوم بسلوكهم وتصرفاتهم من صورة الإسلام الصافية الناصعة، ولو فتشت عن هذه الصورة في صفوف كثير من العلماء على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم؛ فقلَّما تجدها صحيحة كاملة أو صافية نقية، وإنما تجدها وقد شابها من الشوائب الشيء الكثير.
ولهذا؛ يتميز العلماء العاملون في كل جيل ومصر بأنهم هم الذين يوضع لهم القبول في الأرض، ويقبل منهم الناس، ويسمعون لهم، ويقدمون فتاواهم على غيرهم.
ويعدُّ علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي واحداً من هؤلاء؛ بما منحه الله من سعة في العلم، وتفوُّق في فهم النصوص، صاحب ذلك إخلاص صادق وورع وزهد وسلوك حميد وأخلاق عالية وبذل للعلم في كل مناسبة. فهذه الأمور وغيرها أهَّلت هذا العالم لأن يكون في طليعة العلماء. الراسخين في هذا العصر.
وإن من الوفاء له ـ وقد تعلَّمنا على يدي طلابه وهم بحمد لله كثير ـ أن نقدم ترجمة ضافية لحياته، استقيناها مما كُتب عنه ـ وهو يسير ـ، وركزنا على ما كتبه عنه طلابه، ثم مما أخذناه مشافهة من بعض طلابه؛
وإني بهذه المناسبة أسجل اعترافي بالتقصير وعدم الوفاء بحق هذا الإمام، ولكن بذلت جهدي على حد قول الشاعر:

ولكنَّ البَلادَ إِذا اقشعَرتْ *** وصُوِّح نَبتُها رُعِيَ الهِشيمُ

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعني بهذا الشيخ ومشايخه وطلابه وجميع المسلمين في جنات النعيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وكتب; أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
ضحوة الخميس 10/4/1412هـ


المبحث الأول
اسمه ونسبه وأسرته

اسمه:
هو العالم الجليل، والفقه الأصولي، والمحدث الداعية، المحقق المدقق، عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي، علامة القصيم، صاحب التآليف النافعة المشهورة، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

نسبه وكنيته:
عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن أحمد آل سعدي، من نواصر بني تميم، من بني عمرو المنتمية إلى تميم، نزح جدهم من قفار قرب حائل، وسكن عنيزة عام1120هـ، وقيل: من بلدة المستجدة، إحدى البلدان المجاورة لمدينة حائل([3]). يكنى بأبي عبد الله، وهو أكبر أولاده الذكور.

مولده وعائلته:
ولد علامة القصيم في منطقة عنيزة في الثاني عشر من شهر المحرم عام سبعة وثلاث مئة ألف للهجرة 12/1/1307هـ.
وقد توفيت والدته وهو صغير، له من العمر أربع سنوات، وتوفي والده وله من العمر سبع سنوات.
وهكذا أراد الله أن ينشأ هذا العالم يتيم الأب والأم، ومن تكون هذه حاله كثيراً ما يكتب له التفوق والنبوغ إذا وجد الرعاية والعناية والمتابعة، وقد تيسر ذلك للمترجم له، فحاز الكثير من الفضائل والعلوم، ونفع الله به منذ حداثة سنه.
وقد أشار بعض من مترجم للشيخ([4]) إلى أنه كان له من العمر عند وفاة والده ثماني سنوات، وأشار بعضهم الآخر([5]) إلى أنه كان له من العمر اثني عشر سنة عند وفاة والده، وهذا غير مسلَّم؛ لأن عامة من ترجموا للشيخ ذكروا أن عمره عند وفاة والده كان سبع سنوات، ومن هؤلاء ولده عبد الله وتلاميذه القريبون منه.

كفالة زوج أبيه له:
نشأ المترجم له يتيم الأبوين، فقيَّض الله له زوجة والده، فكفلته وأحبته أكثر من أولادها، فصار عندها موضع الرعاية والعناية، فلما شبَّ؛ صار في بيت أخيه الأكبر حمد.

والده:
ولد ناصر آل سعدي والد المترجم له في حدود 1243هـ في عنيزة، ونشأ نشأة صالحة، فكان: عابداً، حافظاً للقرآن، محباً للعلم وأهله، وكان يقرأ على جماعة المسجد الكبير المواعظ دبر صلاة العصر وقبل صلاة العشاء، وينوب عن إمام المسجد في الإمامة والخطابة، والإمام في ذلك الوقت هو الشيخ علي آل محمد.
وفي آخر حياة والد المترجم له تولى إمامة مسجد الموكف حتى توفاه الله عام 1313هـ([6])، وكان خلال إمامته للمسجد يدرَّس فيه ويعلم الناس ما يحتاجونه من أمور دينهم.
وقد اشتهر بالبذل والإحسان وإعانة المحاويج ومد يد العون للآخرين، وتلك صفات الأخيار الصالحين.

والدته:
أمه من آل عثيمين، وهم من آل مقبل، من آل زاخر، البطن الثاني من الوهبة، نسبة إلى محمد بن علوي بن وهيب، ومحمد هذا هو الجد الجامع لبطون الوهبة جميعاً، وآل عثيمين كانوا في بلدة أشيقر الموطن الأول لجميع الوهبة، ونزحوا منها إلى شقراء، فجاء جد آل عثيمين الموجودين في عنيزة من شقراء إلى عنيزة وسكنها، وهو سليمان آل عثيمين، وهو جد المترجم له لأمه([7]).

إخوته:
للمترجم له رحمه الله أخوان يتوسطهما سناً:
أما أكبر الثلاثة؛ فاسمه حمد، وهو الذي نشأ عنده المترجم له، ونشأ نشأة صالحة، وهيأ له أسباب تحصيل العلم.
وحمد هذا يعد من المعمَّرين، حيث مات سنة 1388هـ وله من العمر ست وتسعون سنة.
يقول عنه القاضي: (كان من أعمدة المساجد، تجرَّد للعبادة والتلاوة، وكان من حمله القرآن)([8]).
والثاني وهو أصغر الثلاثة سناً: سليمان، سكن الجبيل، ثم الدمام، وكان من خيرة زمانه، توفي عام 1373هـ.



المبحث الثاني
نشأته

إذا تأملنا العصر الذي ولد فيه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، نجده عصراً يضطرم بنيران الاضطرابات والفتن، وتمزق شمل الجزيرة، وانتشار الخوف والهلع في شتى الجهات.
ومن المسلم به أن عصراً هذا صفته لا يشجع على طلب العلم والتحصيل والعكوف على البحث والتنقيب في الكتب، إنه عصر يلتمس فيه الإنسان الأمن والطمأنينة، ويبحث عن لقمة العيش والكفاف، ومتى توفر ذلك له، اكتفى ولم يبحث عن درجات الرقي والسمو.
وإذا أدركنا هذه الحقيقة المرة، ندرك أية عبقرية كانت كامنة في جوانح الشيخ المترجم له؛ فقد أجمع أمره على أن يقف حياته على طلب العلم، وأن يعطي نفسه أمناً وطمأنينة وسكينة خاصة تصل برباطها الوثيق بينه وبين المهمة التي أزمع أن يقف حياته عليها، فتراه إذ ذاك في وادٍ وأغلب ناشئة عصره ـ من زملائه وأترابه ـ في واد آخر، ولعمر الحق إن هذا هو الطموح والمثابرة الذي يعجز عنه بعض الكبار فضلاً عن الصغار، ولكنها الهمم العلية، واستسهال الصعاب مهما كانت مكابدتها، وصدق الشاعر إذ يقول:
لأستَسهلنَّ الصَّعْبَ أو أدرِك المُنى *** فما انقادتِ الآمالُ إلا لِصابرِ([9])

لقد ارتضى المترجم له العلم والمعرفة خديناً وأليفاً، ولم يرق في نظره ـ من رجال زمنه ـ سوى طبقة العلماء؛ فلازمهم ملازمة الظل، وأكب على الاغتراف من معين علمهم وفضلهم وأخلاقهم، فتغذى أطيب غذاء، وروى أكرم ريٍّ، وكابد المصاعب والمشاق؛ يسهر الليل، ويجتهد في النهار؛ لا فرق عنده بين ليل الصيف والشتاء، حتى حصَّل ما أراد، وحقق ما أمل، ووفق إلى تحقيق مبتغاه، وهكذا المكافحون المثابرون يقطفون الثمرة في النهاية شهية يانعة، وصدق الشاعر إذ يقول:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته *** ومدمن القرح للأبواب أن يلجأ([10])

يقول الشيخ محمد القاضي: (وكان شيخنا منذ نشأته: صالحاً، مثاراً للإعجاب وأنظار الناس، محافظاً على الصلوات الخمس مع الجماعة، حتى لقد حدثني أبي رحمه الله أنه خرج لصلاة الفجر صباح سطوة آل سليم، وله من العمر خمس عشرة سنة، والقصر فيه الرماة، والناس كلهم متحصنون في منازلهم خوفاً على أنفسهم، فقابله بعض الناس، فقالوا: إلى أين تريد؟! فقال: لصلاة الفجر. فضربه حتى ألجأه إلى الرجوع إلى منزله)([11]).


المبحث الثالث
حفظه للقرآن وبداية طلبه للعلم

حفظه للقرآن: نشأ الشيخ ابن سعدي نشأة صالحة، وتربى تربية حسنة، وكان بيته بيت علم؛ لأن والده كان عالماً، وكذا كان أخوه من حملة القرآن، ولذا تعاهده بعد وفاة والده، ودفع به إلى حلقات القرآن، وشجعه على حفظه، حتى تحقق له ما أراد، فحفظه على سليمان بن دامغ في مدرسته بأم خمار، وكان إذ ذاك يافعاً لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره.

بداية طلبه للعلم:
بعد أن قرأ القرآن، وأتم حفظه عن ظهر قلب، وأتقنه تلاوة وتجويداً، انصرف إلى طلب العلم بهمة ونشاط، وقد ساعده في ذلك بيئته الصالحة، وتشجيع أخيه الأكبر حمد له، حيث هيأ له المناخ لطلب العلم، وكفاه مؤنة العيش، فاشتغل ابن سعدي بطلب العلم، على أيدي علماء بلده عنيزة وما جاورها، وقد جد واجتهد في طلب العلم، وسهر الليالي، وواصل الليالي بالأيام، ومضى في طريقه قدماً لا يلوي على سيء غير العلم، ولا ينشد شيئاً غير تحصيل العلم، وقد وفقه الله سبحانه وتعالى بثلة من العلماء والزملاء الذين أعانوه على سلوك هذا الطريق.
ورغم أن ما اختاره ابن سعيد هو الطريق الأصعب، وهو طريق مليء بالمتاعب والمصاعب؛ إلا أن الله شرح صدره لذلك، وحبَّب له العلم، وهكذا طالب العلم لا يعدل بلذَّة العلم لذَّة، وصدق الشاعر:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي *** من وصل غانيةٍ وطيبِ عِناقِ
وتمايُلي طرباً لحل عويصـةٍ *** أشهى وأحلى من مُدامةِ ساق
وصريرُ أقلامي على أورقِهـا *** أحلـى من التصفيـق للعـشاقِ

قال عنه تلميذه القاضي: (. . . وكان مشايخه كلهم معجبين بفرط ذكائه ونبله واستقامته، وكان يحضر هو وأبو عثمان ومحمد العبدالله المانع فيراجعون دروسهم على مشايخهم في كل مساء وفي كل ليلة، حتى يذهب معظم الليل، ويقول والدي: إن فائدتان فيما بيننا من المناقشات والبحث تعادل أو تقارب الفائدة على مشيخنا. . . )([12]).


المبحث الرابع
بداية جلوسه للتدريس
أشرنا في نشأته يتيماً، لكن ذلك لم يمنعه من الطموح والرقي وطلب العلا، ولعلَّ ظروف نشأته كانت من أسباب إقباله على العلم، وقد ظهرت أمارات النبوغ عليه مبكراً، ولذا؛ لما رأى زملاؤه في الدراسة تفوقه عليهم ونبوغه؛ تتلمذوا، وصاروا يأخذون عنه العلم وهو في سن البلوغ، فصار في هذا الشباب المبكر متعلماً ومعلماً، وما إن تقدمت به الدراسة شوطاً؛ حتى تفتحت أمامه آفاق العلم([13]).
ولما بلغ سنَّ الثالثة والعشرين من عمره؛ جلس في حلقة التدريس ليعطي الدروس للطلاب، وقد مضى في طريقين متوازيين، فهو يدرس العلوم ويتلقاها من العلماء، وهو في الوقت نفسه يدرس العلوم لطلابها من الناشئة والشباب. . إنه يتلقى نوراً ويلقي أنواراً على بلده من النور الذي يتلقاه.
وقد بلغ الذروة في علوم الحديث والفقه والتفسير، حتى إنه منذ عام 1350هـ صار مرجع التدريس ومرجع الإفتاء في بلده وما حولها من القرى، وأصبح عليه المعوَّل ـ بعد الله ـ لدى جميع الطلاب في أخذ العلوم([14]).


المبحث الخامس
أعماله التي قام بها
كان الشيخ رحمه الله محباً للخير، ساعياً فيه، يطرق كل باب يؤدي إليه، ولذا كانت له مشاركات إيجابية في إقامة المشاريع الخيرية التي يعود نفعها على المجتمع عامة.
ومن مشاركاته وأنشطته التي قام بها ما يأتي:
1_ كان مرجع بلاده وعمدتهم في جميع أحوالهم وشؤونهم؛ فهو مدرس الطلاب، وواعظ العامة، وإمام الجامع وخطيبه، ومفتي البلاد، وكاتب الوثائق، ومحرر الأوقاف والوصايا، وعاقد الأنكحة، ومستشارهم في كل شؤونهم وما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم، وكل هذه الأعمال يقوم بها حسبة، ولا يتقاضى عنها أجراً، وهذا ما جعله كبيراً في أعين الناس، محبوباً لدى عامتهم وخاصتهم.
يقول عنه العدوي: (لقد كان الشيخ عبد الرحمن السعدي من الناحية الدينية هو كل شيء في عنيزة؛ فقد كان العالم، والمعلم، والإمام، والخطيب، والمفتي، والواعظ، والقاضي، وصاحب مدرسة دينية له فيها تلاميذ منتظمون. . )([15]).

2_ قام بتأسيس المكتبة الوطنية بعنيزة، وذلك عام 1359هـ أو عام 1360هـ على نفقة الوزير عبد الله السليمان الحمدان تحت إشراف الشيخ، فبذل الشيخ المترجم له جهوداً كبيرة في تأسيسها وتأمين المراجع العلمية لها من كل مكان، وقد جلب لها آلاف المراجع ما بين مطبوع ومخطوط في شتى العلوم والفنون والمعارف، وقد خدمه في ذلك تلاميذه المنتشرون في كل مكان، وأصبحت هذه المكتبة بمثابة نادٍ يلتقي فيه طلبة الشيخ ويتذاكرون ويتدارسون ويتحاورون، وقد خصص الشيخ للمكتبة جلسة، فأصبحت تعج بالزائرين؛ لأنها شهدت حركة علمية كبيرة، وتعد هذه المكتبة من طلائع المكتبات العامة في العهد السعودي، وخصوصاً في الديار النجدية.

3_ رشح لقضاء عنيزة عام 1360هـ فامتنع تورعاً، وحرص ألا يعمل بعمل رسمي، ليتسنى له التفرغ للعلم وطلابه، ولهذا عرض عليه القضاء مراراٍ، ولكنه كان في كل مرة يرفض، ومبدؤه الحرص على التفرغ وجمع القلب والفكر للعلم والتعليم، وقد علم الله صدق سريرته، فتحقق له ما أراد، وسلم من كل المناصب التي تشغله عن العلم شاء أم أبى.

4_ عينه القاضي عبد الرحمن بن عودان إماماً وخطيباً للجامع الكبير بعنيزة في رمضان عام 1361هـ، واستمر فيه حتى خلفه تلميذه الشيخ محمد بن صالح ابن عثيمين، ولا يزال فيه.
وقد عدَّ الناس هذا التعيين حسنة من حسنات الشيخ ابن عودان، وأحبوه من أجلها، وحفظوها له؛ لأنها خطوة مباركة، نفع الله بها البلاد والعباد، إذ كان المسجد الجامع نادياً من أندية العلم في حياته وحياة شيخه صالح القاضي، يأتيه طلاب العلم من كل البوادي والأمصار القريبة للانتفاع، ويزدحم بالطلاب على اختلاف ميولهم ورغباتهم وتفاوتهم في درجات تحصيلهم، لكن الدافع للجميع هو الرغبة في العلم والتحصيل، وكانت مجالس المترجم له وشيخه في المسجد وغيره مجالس علم وتعليم وتربية وتوجيه، وهكذا العالم كالغيث أينما حل نفع.

5_ قام في سنة 1363هـ بجمع التبرعات من المحسنين كل على قدر استطاعته لبناء مقدم الجامع الكبير، وقد انهالت عليه التبرعات من كل مكان، وجمع من المال ما مكنه من توسعة المسجد وبناء مقدمته بناء مناسباً يتواكب مع الأعداد الكبيرة التي تؤم المسجد وتصلي فيه.
6_ قام في سنة 1373هـ بجمع التبرعات مرة ثانية لعمارة مؤخر الجامع الكبير، وقد اجتمع لديه المال ما تمكن به من إتمام العمارة على أتم وجه وأكمله، وليس هذا بغريب؛ فإن الأخيار الموثقين إذا تصدوا وتصدروا لعمل الخير، فسيجدون كل عون ومساعدة من المحسنين؛ لثقتهم بهم، ولاطمئنانهم على مصير ما تجود به أنفسهم.

7_ قام بالإشراف على المعهد العلمي بعنيزة عام 1373هـ، وإنه لدعم كبير لطلاب المعهد، وتشجيع لهم؛ أن يتولى الشيخ الإشراف عليه؛ لأن ذلك سيوثق العلاقة بينهم وبينه، وسيمكنهم من عرض أي مشكلة تواجههم عليه.
يقول الشيخ عبد الرحمن العدوي أحد المدرسين في المعهد خلال هذه الفترة: (وبدأت الدراسة في المعهد العلمي بعنيزة في شهر ربيع الثاني من عام 1373هـ، وفي نفس الوقت بلغنا أن الشيخ عبد الرحمن السعدي قد عُين مشرفاً على المعهد من الناحية العلمية، وكان تعيينه براتب شهري قدره ألف ريال.

ولكن الشيخ رحمه الله أرسل إلى رئاسة المعاهد العلمية([16]) أنه على استعداد للإشراف على المعهد حسبة لوجه الله تعالى، وأنه لا يريد أن يكون له على ذلك أجر مادي، وقبلت الرئاسة شاكرة له هذا الصنيع الذي لا يصدر إلا من عالم زاهد يبتغي وجه الله. . وكان رحمه الله يأتي إلى المعهد بانتظام يوم الثلاثاء من كل أسبوع. . ثم يدخل إلى آخر صف، ويجلس فيه كأنه أحد طلاب هذا الفصل، ويكرر هذا العمل في أكثر من فصل، ويستمع إلى أكثر من درس، ولم يكن في المعهد من المدرسين المصريين سواي وزميلي محمد الجبة أما بقية المدرسين؛ فكانوا من أبناء الشيخ، علمهم في المسجد الجامع إلى درجة تسمح لهم بالقيام بتدريس المواد التي تعلموها على يديه)([17]).

8_ يعد الشيخ عبد الرحمن العدوي سبب إدخاله لمكبر الصوت للجامع الكبير، فقال: (. . وذات لقاء قلت له: يا فضيلة الشيخ! لماذا لا تستخدم مكبر الصوت (الميكرفون) في الخطبة، فإن أكثر الناس لا يسمعون صوتك ولا يستفيدون مما تلقيه عليهم من المواعظ والأحكام، فابتسم الشيخ ـ وكان له بسمة خفيفة جميلة تنم عن الرضى والسرور ـ قال: إن مكبر الصوت لم يدخل المساجد في بلاد نجد، ولا أحب أن أكون أول من يستخدمه. قلت: ولماذا؟ ألست الشيخ العالم القدوة؟ إذا لم تفعل أنت ما تراه نافعاً؛ فمن يفعله؟ أليس في استعماله خير وهو نشر تعاليم الدين وآدابه وإسماع أكبر عدد ممكن بواسطته، والنساء في بيوتهن حول المسجد يستمعن الخطبة عن طريق مكبر الصوت، فيكون الخير قد تجاوز حدود المسجد، ومن سنَّ سنَّة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ذلك لأنه سيتعرض لجهل الجاهلين، ونقد الناقدين، وسيصيبه من أقوال الناس وإيذائهم واستنكارهم لما لم يألفوه شيء كثير، فيكون له من أجل ذلك الأجر الكثير؟

ثم إنك يا فضيلة الشيخ ! إذا لم تستخدم مكبر الصوت في خطبة الجمعة؛ فلن يجرؤ أحد على استخدامه من بعدك، وسيقول الناس: لو كان فيه خير؛ لاستخدمه الشيخ السعدي، فتكون قد منعت استخدامه مستقبلاً من حيث لا تدري ولا تريد! فاتسعت الابتسامة على شفتي الشيخ، وقد استمع إلى كلامي كله مصغياً ومتأملاً، وهز رأسه يميناً وشمالاً في هدوء رتيب، وقال ما شاء الله! لقد حدثني في ذلك غيرك، وما شرح الله صدري لذلك مثل ما شرحه الآن، وأعدك أن يكون في المسجد مكبر صوت في الجمعة القادمة إن شاء الله وبر الشيخ بوعده، وأمر بإحضار مكبر للصوت ذي ثلاث سماعات، يعمل بواسطة البطارية ـ فلم تكن عنيزة قد عرفت الكهرباء بعد ـ، وفرح الناس، وتحدثوا عن استماعهم للخطبة من غير جهد، وحرصت على أن أسمع رأيهم، فلم أجد معارضاً، وما سمعت إلا كلمات الاستحسان والسرور، وذهبت إلى الشيخ في بيته لأنقل إليه استحسان الناس وسرورهم، فإذا به ينقل إليَّ بشرى سارة مؤداها أن الشيخ عبد الله السليمان صلى هذه الجمعة في المسجد واستمع إلى الخطبة، فسره ذلك، وتبرع بماكينة كهرباء للمسجد([18]).

وللشيخ رحمه الله خطبة نافعة في فوائد مكبر الصوت، قالها حينما وضعه في الجامع، جاء فيها: (. . وكذلك إيصال الأصوات والمقالات النافعة إلى الأمكنة البعيدة من برقيات وتلفونات وغيرها داخل في أمر الله ورسوله بتبليغ الحق إلى الخلق؛ فإن إيصال الحق والكلام النافع بالوسائل المتنوعة من نعم الله، وترقية الصنائع والمخترعات لتحصيل المصالح الدينية والدنيوية من الجهاد في سبيل الله. . )([19]).
وللشيخ أعمال أخرى خفيت على الناس في حياته، ولم يعلموا عنها إلا بعد موته، فقد كان يعين الفقراء،ويسدد عن المدينين مما يقع في يديه من الأموال وقد كان موفقاً في حل المشاكل العائلية والمعاملات المالية التي يترتب عليها منازعات ومخاصمات، وكان ينهيها قبل وصولها إلى المحكمة، ولعمر الحق إن هذا هو العالم الرباني الذي ينفع أينما حل وارتحل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم([20]).


المبحث السادس
صفاته الخلقية
وصفه أحد تلاميذه فقال:
(كان قصير القامة، ممتلئ الجسم، أبيض اللون، مشرباً بالحمرة، مدور الوجه، طلقه، كثيف اللحية البيضاء، وقد ابيضت مع رأسه وهو صغير)([21]).
ووصفه آخر، فقال:
(كان متوسط القامة، إلى الربعة أقرب، ممتلئ الجسم، أبيض اللون، مشرباً بالحمرة، مدور الوجه، كثيف اللحية البيضاء، وقد ابيضت مع رأسه وهو صغير، وكان شعره في شبيبته في غاية السواد، وفي شيخوخته في غاية البياض، يتلألأ كأنه فضة، ووجهه حسن، عليه نور في غاية الحسن وصفاء اللون)([22]).


المبحث السابع
خصائله وشمائله
أخلاقه:
عاش الشيخ عبد الرحمن بن سعدي حياة الزهد والورع والتواضع والأمانة والأخلاق الكريمة، كان جريئاً في قول الحق، لا يخشى في الله لومة لائم، يصدع به مهما كلفه ذلك من تضحيات، وقد سبب له ذلك غضب بعض المأجورين من العصاة وأهل المنكرات.
كان رحمه الله لا يضيق بنصح ناصح، بل يسمع بأدب جم مهما كانت النصيحة صادرة من صغير أو كبير، وذلك خلق العلماء الأعلام الذين رزقهم الله التواضع، فرفعهم الله في أعين الناس كباراً.
وقد حباه الله شدة الذكاء، وسرعة في البديهة، وقوة في الحفظ، ولهذا ذكر عنه تلاميذه أنه كان يحفظ المتون عن ظهر قلب، ويتعاهدها بين الحين والحين، ولهذا؛ إذا استشهد بشيء؛ هذَّه هذاً كما تُهذ فاتحة الكتاب.
كما وهبه الله ملكه فريدة في الإلقاء، جذبت إليه أنظار الناس من كل مكان، إذ كانوا يتوافدون إليه للاستماع منه، وقد صاحب ذلك حسن صوت ومنطق يجعل سامعه لا يمل حديثه؛ لاسترساله في الحديث، وتخيره للبراهين العقلية والقصص الواقعية، وتلك مزايا يندر وجودها في خاصة الناس؛ فضلاً عامتهم.
وقد كان رحمه الله: وثيق الصلة، حسن المعاشرة، متودداً إلى جلسائه من مشايخ وأقران وطلاب، إذا جلست عنده؛ لا تفرق في حلقته بين كبير وصغير، لسمو الأخلاق وكريم السجايا([23]).

وإليك تفصيل أخلاقه فيما يأتي:
زهده:
إذا أردنا أن نعرف حقيقة الزهد عند المترجم له؛ حسن أن نذكر هنا طرفاً من (منظومته في السير إلى الله)، ونشير إلى بعض تعليقاته عليها.
قال رحمه الله:
يتـرقـبـون إلـى المليـك بفعـلهـم *** طاعـاتـه والــتـرك للعـصيــان
فـعـل الفرائـض والنوافل دأبـهـم *** مع رؤية التقصير والنقصــان
صبروا النفوس على المكاره كـلها *** شوقاً إلى ما فيه من إحسان
نـزلـوا بـمنـزلة الرضى فـهم بـها *** قـد أصبـحوا في جـنة وأمان
شكروا الذي أولى الخلائق فـضله *** بالقــلب والأقـوال والأركــان
صحبوا التوكل في جميع أمـورهم *** مع بذل جهد في رضى الرحمن
نصحوا الخليقة في رضى محبوبهم *** بالـعـلـم والإرشــاد والإحـسان
صحـبوا الخلائق بالجـسوم وإنمــا *** أرواحـهـم في منزل فـوقـاني
عزفوا القلـوب عن الشواغل كلهـا *** قد فرغوها من سـوى الرحمن
حـركـاتهـم وهـموـمهم وعـزومهم *** للـه لا للـخــلــق والشيـطــان
نعـم الرفيق لطـالب السبل التـي *** تقضي إلى الخيرات والإحسان

هذه أوصاف السائرين إلى الله، الذين يحرص الشيخ على صحبتهم والسير معهم.
يقول في تعليقه على البيتين الأخيرين: (أي: فرغوا قلوبهم عن جميع ما يشغل عن الله ويبعد عن رضاه، وهذا حقيقة الزهد، ولا يكفي هذا التفريغ حتى يمتلئ القلب من الأفكار النافعة والعزوم الصادقة، فتكون أفكار العبد في كل ما يقرب إلى الرحمن؛ من تصور علم، وتدبر قرآن، وذكر الله بحضور قلب، وتفكر في عبادة وإحسان، وخوف من زلة وعصيان، أو تأمل لصفحات الرحمن وتنزيهه عن جميع العيوب والنقصان، أو تفكر في القبر وأحواله، أو يوم القيامة وأهواله، أو في الجنة ونعيمها والنار وجحيمها، فأفكارهم حائمة حول هذه الأمور، متنزهة عن دنيات الأمور والتفكر بما لا يجدي على صاحبه إلا الهم والوبال وتضييع الوقت وتشتيت البال غير نافع للعبد في الحال والمآل؛ فهؤلاء هم الذين يسعد بهم رفيقهم إذا اقتدى بسلوك سيرهم فريقهم، وهؤلاء الذين أمرنا الله أن نسأله أن يهدينا طريقهم، إذ أنعم عليهم بصدق إيمانهم وتحقيقهم)([24]).

يقول عنه تلميذه محمد القاضي: (. . وكانت الكتابة سهلة عليه في قلم أو عود عصفر أو غيرها، مما جعل شيخه محمد الشنقيطي يقول: ما وصفته في مخطوطاته إلا على الزهاد في الدنيا، يأخذ ما عفى له بدون تكلف. . )([25]).
ويقول عنه أيضاً: (وكان كثير الحج نفلاً، زاهداً، عفيفاً، متعففاً، عزيز النفس مع قلة ذات يده، متواضعاً، يسلم على الصغير والكبير، ويجيب الدعوة، ويزور المرضى، ويشيع الجنائز. . )([26]).

وقال عنه صاحب (سيرة ابن سعدي): (. . ومن الجدير بالذكر أنه كان زاهداً، معرضاً عن مفاتن الدنيا ومباهج الحياة وزخارفها، وكان منقطعاً للعبادة والعلم، لا يشارك الناس فيما يهتمون به من المناصب والجاه والنفوذ، وناهيك أنه عرض عليه القضاء مراراً عديدة، فأبى أن يدخل الميدان، ومع هذا؛ فكان الناس يرضونه حكماً، ويتقبلون فتاواه، ويطمئنون إلى ما يقوم به من إصلاح ذات البين عن طيب خاطر. . )([27]).

ويقول عنه الأديب عبد الرحمن الفوزان: (. . وكان مثال الورع والزهد الصحيح؛ فقد أتته الدنيا تطلب وده ضاحكة مبتسمة، لكنه رفضها وأباها، وكم من مرة عرضت عليه المناصب الرفيعة والأعمال الغالية، فأصبحت محاولاتها عبثاً، ولم يرض أن تفرض له المرتبات، ولا أن يُجرى عليه المخصصات، بل كان قانعاً بما عنده من كفاف، حتى إن مخصص إمامة الجامع الكبير الذي تولى الصلاة فيه سنين عديدة كان ينفقها في المصالح الخيرية، وعلى الفقراء والمعوزين. . )([28]).

هذا هو زهد الشيخ: صدق الإقبال على الله، وتفريغ القلب عن كل محبوب سوى الله، ومصاحبة للأخيار السائرين في الطريق المستقيم طريق المنعم عليهم، عزوف عن المناصب وطمع الدنيا الزائل، وتخلص مما في اليد منها، وعطف على الفقراء والمساكين، وتلك درجات لا يبلغها إلا المقربون، وقليل ما هم.

ورعه:
للوقوف على ورع الشيخ يحسن بنا أن نقف على تعريفه للورع ووصفه له.
ذكر في كتابه (بهجة قلوب الأبرار) حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله ص: (يا أبا ذر! لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق)([29]).
ثم قال رحمه الله: (هذا الحديث اشتمل على ثلاث جمل، كل واحدة منها تحتها علم عظيم. .).
(الجملة الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: ولا ورع كالكف)؛ فهذا حد جامع للورع، بين به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الورع الحقيقي هو الذي يكف نفسه وقلبه ولسانه وجميع جوارحه عن الأمور المحرمة الضارة، فكل ما قاله أهل العلم في تفسير الورع، فإنه يرجع إلى هذا التفسير الواضح الجامع.

فمن حفظ قلبه عن الشكوك والشبهات وعن الشهوات المحرمة والغل والحقد وعن سائر مساوئ الأخلاق، وحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والكذب والشتم وعن إثم وأذى وكلام محرم، وحفظ فرجه وبصره عن الحرام، وحفظ بطنه عن أكل الحرام، وجوارحه عن كسب الآثام؛ فهذا هو الورع حقيقة، ومن ضيع شيئاً من ذلك؛ نقص من ورعه بقدر ذلك. . )([30]).
وقال رحمه الله في موطن آخر: (. . واعلم أن القناعة باليسير والاقتصاد في أمر المعيشة مطلوب من كل أحد، ولا سيما المشتغلون بالعلم، فإنه كالمتعين عليهم، لأن العلم وظيفة العمر كله أو معظمه، فمتى زاحمته الأشغال الدنيوية والضروريات؛ حصل النقص بحسب ذلك، والاقتصاد والقناعة من أكبر العوامل لحصر الأشغال الدنيوية وإقبال المتعلم على ما هو بصدده. . )([31]).

وقال عنه صالح بن عبد العزيز بن عثيمين: (. . لقد كان الفقيد رحمه الله عبد الرحمن السعدي على جانب كبير من الأخلاق الحسنة، متواضعاً للصغير والكبير، ذا عبادة وزهد وورع. . )([32]).
وقال عنه عبد الرحمن الفوزان: (. . وكان مثال الورع والزهد الصحيح. .)([33]).
وقال عنه عبد القدوس الأنصاري: (. . وقد اشتهر فضله وورعه وعلمه، وكان مرجعاً عظيماً من مراجع العلم والدين. . )([34]).

تواضعه:
اشتهر علامة القصيم بتواضعه الكبير، فرغم أنه كبير البلد وعالمها ورجلها الأول وصاحب المواقف الشجاعة وصاحب اليد الطولى في مجالات الخير والبر والإحسان؛ إلا أن ذلك زاده تواضعاً، فكبر في أعين الناس، ووضعوه بالمكانة اللائقة به.
وصفه بعض من ترجم له، فقال: (. . كان متواضعاً، جم التواضع؛ للصغير والكبير، والغني والفقير؛ على السواء، كان كثير الاجتماع مع العامة ومع الخاصة في أنديتهم وفي مجتمعاتهم، وإذا اجتمع بهؤلاء أو ألئك؛ انقلب المجلس إلى ناد علمي، فمع طلبة العلم يبحث في شؤون العلم، ومع العامة يرشدهم إلى ما فيه نفعهم في دينهم وفي دنياهم.
ولهذه الميزة التي تدل على تفتح الوعي واستنارة البصيرة وسعة الأفق؛ تجد كل من يحضر مجالسه يستفيد منها علماً جماً وفوائد جزيلة. . )([35]).

(وكان يتكلم مع كل إنسان بما يصلح له ويصلحه، ويبحث معه في الموضوعات التي تهمه والتي تنفعه في دينه ودنياه).
وكان رحمه الله حلالاً للمشاكل ـ مشاكل الناس بعضهم مع بعض ـ بما أوتي من علم وحكمة ورشد وذكاء لماح.
وكان محبوباً من جميع من خالطه وعرفه؛ لأن الجميع كانوا يشعرون: أنه والد لهم، حريص على العناية بشؤونهم، يقوم بحاجاتهم، ويخدمهم فيما يحتاجونه، لا يفرق بين صغير أو كبير، أو شريف أو غيره.
لقد بلغ من تواضعه أن الأرملة والعجوز والطفل الصغير قد يستوقفونه فيقضي لهم حاجاتهم بكل يسر وسهولة ووجهه بشوش مستبشر)([36]).

ويقول عنه تلميذه الشيخ عبد الله البسام: (. . له أخلاق أرق من النسيم، وأعذب من السلسبيل، لا يعاتب على الهفوة، ولا يؤاخذ بالجفوة، يتودد ويتحبب إلى البعيد والقريب، يقابل بالبشاشة، ويحيي بالطلاقة، ويعاشر بالحسنى، ويجالس بالمنادمة ويجاذب أطراف أحاديث الأنس والود، ويعطف على الفقير والصغير، ويبذل طاقاته ووسعه، ويساعد بماله وجاهه وعلمه ورأيه ومشورته ونصحه بلسان صادق وقلب خالص وسر مكتوم. . )([37]).
ولقد أشار الشيخ السعدي رحمه الله إلى أن الكبر المذموم هو التكبر عن قبول الحق والأخذ به، والتكبر عن الرجوع إلى الصواب بعد أن يتبين له.

يقول في (بهجة قلوب الأبرار): (. . فيجب على طالب العلم أن يعزم عزماً جازماً على تقديم قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد، وأن يكون أصله الذي يرجع إليه وأساسه الذي يبني عليه الاهتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، والاجتهاد في معرفة مراده، واتباعه في ذلك ظاهراً وباطناً، فمن وفق لهذا الأمر الجليل، فقد وفق للخير، وصار خطؤه معفواً عنه؛ لأن قصده العام اتباع الشرع، فالخطأ معذور فيه إذا فعل مستطاعه من الاستدلال والاجتهاد في معرفة الحق، وهذا هو المتواضع للحق. . )([38]).
ويقول في موضع آخر: (. . على المعلم إذا أخطأ أن يرجع إلى الحق، ولا يمنعه قول قاله ثم رأى الصواب في خلافه من مراجعة الحق والرجوع إليه، فإن هذا علامة الإنصاف والتواضع للحق، فالواجب اتباع الصواب، سواء جاء على يد الصغير أو الكبير، ومن نعمة الله على المعلم أن يجد من تلاميذه من ينبهه على خطئه، ويرشده إلى الصواب، ليزول استمراره على جهله، فهذا يحتاج إلى شكر لله تعالى، ثم إلى شكر من أجرى الله الهدى على يديه، متعلماً كان أو غيره. . )([39]).

جرأته في الحق:
لقد كان الشيخ السعدي رحمه الله واحداً من العلماء القلائل الذين وقفوا في وجه الباطل، ولم يمنعهم مانع من منازلته وهدم بنيانه من الأساس.
كان الشيخ جريئاً في الحق، لا يخاف في الله لومة لائم، دأبه دأب العلماء العاملين في كل زمان ومكان، يدل لذلك كتابه القيم (الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين)؛ فقد نازل فيه جميع طوائف الملحدين، وتحداهم، وأبطل أصولهم، وفنَّد مزاعمهم، وهدم قواعدهم، وزلزل بنيانهم، وبين مخالفتهم للعقل والفطرة والحكمة كما خالفوا جميع الأديان الصحيحة.
كما وقف كالطود الشامخ في مواجهة القصيمي الذي أعلن الحرب على الله وعلى عباده، وخص منهم العلماء، فانبرى له الشيخ، وألف رسالته القيمة (تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله)، وبين فيها ضلال الرجل وثناه على أعداء الله وتقربه لهم ومقته وسخريته بعباد الله المؤمنين، وخصوصاً أهل الصلاح والدين والعلم.
وكان الشيخ موفقاً أيما توفيق في هذين الكتابين اللذين كانا درعاً حصيناً لأهل الخير، وسهماً صائباً لأعداء الله وأعداء عباده الصالحين.

يقول الشيخ رحمه الله في معرض حديثه عن العلماء والمتعلمين: (. . ومن أهم ما يتعين على أهل العلم معلمين أو متعلمين: السعي في جمع كلمتهم، وتأليف القلوب على ذلك، وحسم أسباب الشر والعداوة والبغضاء بينهم، وأن يجعلوا هذا الأمر نصب أعينهم؛ يسعون له بكل طريق؛ لأن المطلوب واحد، والقصد واحد، والمصلحة مشتركة، فيحققون هذا الأمر بمحبة كل من كان من أهل العلم. . ولا يدعون الأغراض الضارة تملكهم وتمنعهم من هذا المقصود الجليل. . )([40]).
وقال في موضع آخر: (. . فالموفق تجده. . ناصحاً لأئمة المسلمين؛ من ولاتهم، وعلمائهم، ورؤسائهم؛ في محبة الخير لهم، والسعي في إعانتهم عليه قولاً وفعلاً، ومحبة اجتماع الرعية على طاعتهم، وعدم مخالفتهم الضارة، ويسعى في إيصال النفع إليهم بكل ممكن، ويصدق ظاهره باطنه وأقواله أفعاله. . )([41]).

ويقول عنه محمد الفقي: (. . وعرفت أنه اكتسب عزة النفس وكرامتها التي سمت به أن يأكل لقمة العيش من الدين وباسم الدين، وإنما كان يأكلها من كده وكسبه الطيب بلكدح لها من أسبابها الأخرى. عرفت فيه أنه اكتسب العزة والكرامة، فخاف الوظائف، وأبى قيودها؛ ليبقى عزيز النفس كريماً يصدع بكلمة الحق ويقولها للناس، ابتغاء وجه ربه فهي أنجح وأربح وأقوى وأسعد، وهي كذلك الحياة الطيبة التي اختارها الله تعالى لرسله ولمن اصطفى من أتباعهم الذين يحرصون على سلوك سبيلهم على بصيرة وهدى من الله. . )([42]).

هكذا كانت جرأته في قول الحق، لا يخاف أحداً إلا الله، يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، لكن متى تطلب الأمر صراحة وصرامة وقوة، فحسبك به.
ولهذا كان الكثيرون يأتون إليه ويخبرونه ببعض المنكرات، فيقوم الشيخ مباشرة بدوره في مكاتبة الجهات المعنية، ومناصحة الأفراد، حتى تتم إزالة المنكر.
وبهذا الأسلوب الفريد كسب ثقة الجميع، وأحبه الناس كلهم؛ من تعامل معهم ومن لم يتعامل معهم ممن سمعوا ثناء الناس عليه.
وليت العلماء وطلاب العلم يقومون بهذا الأمر على وجهه الصحيح، ويتعاونون فيما بينهم، ويومها لا تقوم للباطل قائمة، ويعلو الحق، ويقوى جانب الخير، ويومذاك يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو القوي العزيز.

قوة ذكائه وحفظه:
اشتهر الشيخ السعدي رحمه الله بقوة الحافظة والذكاء، ولهذا؛ فكل من يذكره يشير إلى هاتين الميزتين العظيمتين، وناهيك بمن وظفهما بالعلم والتحصيل، ولذا سهل على الشيخ حفظ القرآن صغيراً، حيث حفظه وعمره إحدى عشرة سنة.
يقول عنه تلميذه البسام: (. . فأقبل على العلم بجد ونشاط وهمة وعزيمة، فحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب أن يتجاوز الثانية عشرة من عمره. . )([43]).
ويقول عنه تلميذه القاضي: (. . وكان يحفظ كثيراً من المتون العلمية، وإذا استشهد بها؛ رأيته يهذها هذاً، لأنه كان يتعاهدها دائماً، وكان واسع الاطلاع في فنون عديدة، ففي كل فن نقول: هذا فنه المختص به. . )([44]).

ويقول في موضع آخر: (. . وعنده قوة ذاكرة وحفظ وجواب حاضر يندهش منه سامعه ومن قرأ عليه أو تلمح مؤلفاته القيمة بأن له ذلك من فصاحة وبيان وجزالة لفظ، فإنه البحر الذي لا ساحل له.
يقر له الفضل من كان منصفاً *** إذا قال قولاً كان بالقول أمثلا([45])

لقد اشتهر كثير من علماء السلف بهاتين الخصلتين: الذكاء والحفظ، ومن أنعم الله بهما عليه؛ انتفع بهما نفعاً عظيماً ونفع الله به نفعاً كثيراً، وقل أن تجد عالماً اشتهر في الأزمنة المتأخرة دون أن تكون فيه هاتان الخصلتان، نسأل الله الكريم من فضله.

حسن منطقه:
كان الشيخ رحمه الله: دمث الأخلاق، لطيف المعشر والمحضر، ينساب حديثه العذب إلى النفوس، فيجذبها إليه جذباً قوياً.
وكان حديثه ممتعاً، لا يمله السامع، مهما يطول درسه؛ فإنك تجد تلاميذه لا يملون، ولهذا نجح على يديه كثير من الطلاب الناجحين والمحصلين([46]).
يقول عنه تلميذه القاضي: (. . وكان له صوت حسن رخيم، لا يمله سامعه، كما كان يختم المجلس بقراءة القرآن؛ لحسن صوته وجودة قراءته)([47]).
ويقول عنه في موضع آخر: (. . ويستنبط من الحديث إذا أخذ يتكلم عليه فوائد لا تجيء على البال، ويفسر القرآن ارتجالاً، وعنده قوة ذاكرة وحفظ وجواب حاضر يندهش منه سامعه)([48]).

هكذا كان الشيخ السعدي رحمه الله يبهر سامعه، في حسن حديثه، وترتيبه، وكثرة استشهاده، واستطراده، وسياقه للقصص التي تجذب المستمع وتجعله يصيغي بكليته إلى محدثه.
ولقد أخذ رحمه الله بقسط وافر مما ينبغي أن يكون عليه المعلم؛ من تفاعل مع طلابه، وشحذ لهممهم، وتدريب لهم، لتعظم استفادتهم في أقل الأوقات وأيسر الجهود.
يقول الشيخ رحمه الله: (. . وينبغي سلوك الطريق النافع عند البحث تعلما وتعليما، فإذا شرع المعلم في مسألة؛ وضحها وأوصلها إلى أفهام المتعلمين بكل ما يقدر عليه من التعبير وضرب الأمثال والتصوير والتحرير، ثم لا ينتقل عنها إلى غيرها قبل تفهيمها للمتعلمين. . )([49]).
ويقول في موضع آخر: (. . وينبغي تعاهد محفوظات المتعلمين ومعلوماتهم بالإعادة والامتحان والحث على المذاكرة والمراجعة وتكرار الدرس، فإن التعلم بمنزلة الغرس للأشجار، والدرس والمذاكرة والإعادة بمنزلة السقي لها وإزالة الأشياء الضارة عنها لتنمو وتزداد على الدوام. . )([50]).

سمو أخلاقه ولين جانبه:
كان الشيخ السعدي رحمه الله: كريم الأخلاق، حسن السجايا، يتودد للقريب والبعيد، يحب الخير للناس كما يحبه لنفسه، لين الجانب، يتحدث مع الصغير والكبير، كل حسب عقله وإدراكه.
يقول عنه تلميذه القاضي: (. . وكان رحمه الله ذا دعابة، يتحبب إلى الخلق بحسن خلقه، مرحاً للجليس، لا يرى الغضب في وجهه، طلق الوجه، كريم المحيا. . يتكلم مع كل فرد بما يناسب حاله، ويدفع للفقراء من الطلبة الأموال ليتجردوا عن الانشغال في وسائل معينة. . )
ويقول: (. . وكان متواضعاً، يسلم على الصغير والكبير، ويجيب الدعوة، ويزور المرضى، ويشيع الجنائز. . )([51]).
أما شفقته على الفقراء وحدبه على الغرباء ومساعدته لهم بحسب طاقته واقتداره، فحدث عن البحر ولا حرج.
وأما عفيته وأدبه ونزاهته وحزمه ونباهته، فقد سارت بها الركبان([52]).
يقول عنه تلميذه البسام: (. . وكان لا ينقطع عن زيارتهم ـ أهل بلده ـ في بيوتهم ومشاركتهم في مجتمعاتهم. . )([53]).


المبحث الثامن
ثروته ومورد رزقه
نشأ الشيخ السعدي في أسرة فقيرة، فقد كان والده رحمه الله فقيراً، ومع ذلك قدر الله ـ وله الفضل والمنة ـ أن يعيش المترجم له يتيماً، إذ ماتت أمه وله من العمر أربع سنوات، ومات والده وله من العمر سبع سنوات، وقد تولت تربيته زوجة والده، فأحسنت القيام عليه، وأحبته أكثر من أولادها، فنشأ نشأة صالحة، ثم تعاهده أخوه الأكبر حمد، حيث أوصى والده به أخاه الأكبر، وكان حمد رجلاً صالحاً حافظاً للقرآن، فهيأ الجو للشيخ عبد الرحمن، وأخذ ينفق عليه، ويدفعه لحلقات العلم، فظهرت علامات الزهد وأمارات الذكاء والنجابة عليه وهو صغير، ففرح أخوه حمد، واستمر في مشواره معه؛ ينفق عليه، ويجعله لا يحتاج إلى شيء، ومتى تهيأ الجو الصالح ورزق الشخص ذكاء وحفظاً؛ تيسر التحصيل بإذن الله تعالى.
وقد كان أهل الخير في ذلك الزمن وقبله ـ ولا يزالون ـ ينفقون على المنقطعين على طلب العلم، وتلك خصلة طيبة، إذ طلب العلم يحتاج إلى شيء من التفرغ عن شواغل الحياة وملهياتها.

ثم إن للشيخ عبد الرحمن أخاً من أمه، هو حمد القاضي، وكان تاجراً أنعم الله عليه، فأخذ يبعث لأخيه الأموال التي يقسمها على الفقراء والمساكين، ولا شك أنه كان يخصص لأخيه شيئاً من هذه الأموال.
وبهذا تهيأ للشيخ المترجم له الجو المناسب لطلب العلم، وأتته الدنيا منقادة رغم أنفها، فأخذ منها بقدر، وكان منها على حذر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.


المبحث التاسع
معايشته لقضايا العالم الإسلامي
هناك كثيرون من العلماء في علمنا الإسلامي، ولكن العلماء الذين يجمعون بين فقه النصوص وفقه الواقع قليلون، ولعل من هؤلاء علامة القصيم الشيخ ابن سعدي، حيث كان يعيش هموم العالم الإسلامي، وقد ظهر ذلك جلياً في كتاباته في الصحف والمجلات داخل المملكة وخارجها، وفي خطبه التي كان يخصصها لأحداث العالم الإسلامي.
فقد خطب الشيخ عن العدوان الثلاثي على مصر الذي قامت به كل من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، ولكل منها هدف من العدوان، فعرف الشيخ هذه الأبعاد، وخطب الناس خطبة الجمعة في هذا الموضوع، ورفع الناس معه أكف الضراعة إلى الله أن يحمي القوة الإسلامية، وأن ينصر المسلمين، ويرد كيد الكافرين.
وقد استجاب الله من المسلمين، فخطب الشيخ السعدي في جمعة ثانية مهنئاً ومبشراً ومذكراً بقول الله تعالى: [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً]([54]).


المبحث العاشر
مصادر علمه وخصوصاً فقهه
سبق وأن ذكرنا طرفاً من شيوخه الذين تلقى على يديهم، ولكي نعرف المصادر التي استقى منها الشيخ ابن سعدي؛ لابد أن نقف على طريقة التعليم وقت تلقيه للعلم، وهي الطريقة العامة التي كانت سائدة في عصره، حيث كانت حلقات العلم عامرة، يتصدر كل عالم حسب الفن الذي تخصص فيه.
وقد تلقى ابن سعدي في هذه الحلقات علوم التفسير والحديث والفروع والعقائد والفرائض وعلوم العربية، وكان له القدح المعلى في كل هذه الفنون.

ولما شبَّ ابن سعدي عن الطوق؛ أدخل على هذا الأسلوب أساليب أخرى في التعليم تناسب العصر، وقد أكد على هذا في الكثير من كتبه ومن ذلك قوله:
(. . التعليم له طرق كثيرة، سوى طرق التعليم في المدارس على اختلاف أنواعها، وسوى لطرق تعليم الطلبة المستعدين للتعليم في أوقات مرتبة وعلى طرائق مختلفة، هؤلاء المتعلمون هم المستعدون للترقي في العلم بحسب ما يسر الله لهم من طرق التعليم النافعة بحسب قرائحهم وأذهانهم، وهم الذين يرجى أن يبلغوا مبلغاً يكونون المرجوع إليهم، وأن يكونوا معلمين بعدما كانوا متعلمين)([55]).

لقد كان الشيخ ابن سعدي حريصاً على التلقي من مصادر كثيرة، حيث لازم حلقات متعددة، وسافر للتحصيل، ويسر الله له بعض العلماء المارين بعنيزة، فلازمهم، واستفاد منهم، وكان حريصاً على تحصيل شتى الفنون، ولكن ميله كان للفقه، حيث خلف فيه المؤلفات الكثيرة، وبرع فيه، وأبدع في اجتهاداته التي يعضدها الدليل القوي.
ولذا نراه يرشد طلاب العلم إلى السعي للتحصيل والجد والاجتهاد، فيقول: (. . اعلم أنه يتعين على طالب العلم أن يسعى جهده لتحصيل ما يحتاجه من الفهم وتشتد إليه ضرورته مبتدئاً بالأهم فالأهم؛ قاصداً بذلك وجه الله، يعتقد أن درسه ومدارسته وبحثه ومباحثته ونظره ومناظرته وتعلمه وتعليمه طريق يوصله إلى ربه ويحتسب به ثوابه. .)([56]).
يقول عنه تلميذه البسام: (. . واشتغل بالعلم على علماء بلده والبلاد المجاورة لها ومن يرد إلى بلده من العلماء، وانقطع للعلم، وجعل كل أوقاته مشغولة في تحصيله؛ حفظاً، وفهماً، ودراسة، ومراجعة، واستذكاراً، حتى أدرك في صباح مالا يدركه غيره في زمن طويل. . )([57]).

المبحث الحادي عشر
مذهبه
كان الشيخ ابن سعدي ذا معرفة تامة بالفقه أصولاً وفروعاً، وقد كان في أول أمره متمسكاً بمذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكان له الاطلاع الواسع على مؤلفات الفقه الحنبلي.
وكان ذا إدراك باهر واطلاع واسع على كتب الخلاف في هذا المذاهب، وقد حفظ بعض المتون فيه، وله مؤلف في الفقه على طريق النظم للمسائل، يتكون من أربع مئة بيت على مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

يقول عنه تلميذه البسام: (. . وما إن تقدمت به الدراسة شوطاً، حتى تفتحت أمامه آفاق العلم، فخرج عن مألوف بلده من الاهتمام بالفقه الحنبلي فقط إلى الاطلاع على كتب التفسير والحديث والتوحيد وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم التي فتقت ذهنه ووسعت مداركه، فخرج عن طور التقليد إلى طور الاجتهاد المفيد، فصار يرجح من الأقوال ما رجحه الدليل وصدقه التعليل. . )([58]).
وقد ألف الشيخ ابن سعدي كتاب (المختارات الجلية) ذكر فيها بعضاً من المسائل التي ترجحت عنده بعد بحثها والنظر في أدلتها، ومعظم هذه المسائل على خلاف ما ترجح عند بعض الحنابلة، لكن دليلها عند الشيخ قوي، فرأى رجحانها.

وقد بين مسلكه في تتبع هذه المسائل، فقال في مقدمة هذا الكتاب: (. . واعلم أنه يتعين على طالب العلم أن يجتهد ويحرص في كل مسألة من مسائل الدين والأحكام على تصورها وتحريرها وتفصيلها وحدها وتفسيرها، ثم يسعى في إدراك ما بُنيت عليه من الدليل والتعليل الراجح لمعاني الكتاب والسنة وأصولهما. . )([59]).
وقال في موضع آخر: (. . قد تكرر السؤال من بعض الأصحاب على وضع كتاب في فقه أصحابنا من الحنابلة على وجه يتضح به ما نختاره ونصححه من المسائل الفقهية، ونشير إلى شيء من مآخذها وأدلتها. . )([60]).
ثم بدأ في ذكر ما ترجح لديه، مرتباً المسائل حسب أبواب الفقه عند الحنابلة، وقد جعل هذه المختارات استدراكاً على (شرح الزاد)؛ لأنه أكثر الكتب شيوعاً بين يدي طلاب العلم.
وقال في باب الطهارة: (الصواب أن الماء نوعان: طهور مطهر ونجس منجس. . الصحيح أن الدباغ مطهر لجلد ميتة المأكول. . والصحيح أنه لا يكره استقبال النيرين وقت قضاء الحاجة. .)([61]).
(وبعد أن أدرك الشيخ ابن سعدي وبلغ مبلغ العلماء وأخذ يجتهد ويرجح، كاتب علماء الأمصار ومفكري الآفاق في جديد المسائل وعويصات الأمور، حتى صار لديه جرأة وجسارة على محاولة تطبيق بعض النصوص الكريمة على بعض مخترعات هذا العصر وحوادثه. . )([62]).
لكنه مع نزعته للاجتهاد، لم يخرج في الغالب عن ترجيحات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلا في القليل.


المبحث الثاني عشر
نظرته للعلم والعلماء
تواترت نصوص الكتاب والسنة على: فضل العلم، وشرفه، وفضل أهله، وأن كل شيء يفتقر إليه، وأن الناس كلهم في الظلمات إلا من استنار بنور العلم، وجعل الله طريق الجنة والصراط المستقيم مركباً من العلوم النافعة ومن الأعمال الصالحة.
وقد أكد العلامة ابن سعدي مكانة العلم والعلماء، ووجه طلاب العلم إلى بلوغ المكانة السامية، وأرشدهم إلى الترقي في درجات العلم وبلوغ أعلى المراتب فيه، وحذرهم من المقاصد الدنيئة أو الأطماع القريبة، وتناول هذه القضية في العديد من كتبه.

ومن أوضح ذلك قوله: (. . العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يصحبك في دورك الثلاث: في الدنيا وفي البرزخ ويوم يقوم الأشهاد. . الجهل داء قاتل والعلم حياة ودواء نافع، حاجة الناس إلى العلم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، والاشتغال بالعلم من أفضل الطاعات وأجل القربات، مذاكرة العلم تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعلمه وتعليمه ودراسته توجب رضى العباد، لولا العلم؛ لكان الناس كالبهائم في ظلمات الجهالة، ولولا العلم؛ لما عرفت المقاصد والوسائل، ولولا العلم؛ ما عرفت البراهين على المطالب كلها ولا الدلائل، العلم هو النور في الظلمات، وهو الدليل في المتاهات والشبهات، وهو المميز بين الحقائق، وهو الهادي لأكمل الطرائق، بالعلم يرفع الله العبد درجات، وبالجهل يهوي إلى أسفل الدركات. . )([63]).

وقال في موضع آخر موجهاً المعلمين مناصحاً لهم: (. . وعلى المعلم النصح للمتعلم بكل ما يقدر عليه من التعليم والصبر على عدم إدراكه وعلى عدم أدبه وجفائه مع شدة حرصه وملاحظته لكل ما يقومه ويهذبه ويحسن أدبه، لأن المتعلم له حق على المعلم، حيث أقبل على الاشتغال بالعلم الذي ينفعه وينفع الناس، وحيث توجه للمعلم دون غيره، وحيث كان ما يحمله من العلم عن المعلم هو عين بضاعة المعلم، فيحفظها وينميها ويتطلب بها المكاسب الرابحة؛ فهو الولد الحقيقي للمعلم الوارث له. . والحذر الحذر من التعصب للأقوال والقائلين. . فإن التعصب مذهب للإخلاص مزيل لبهجة العلم معم للحقائق فاتح باب الحقد والخصام الضار، كما أن الإنصاف هو زينة العلم وعنوان الإخلاص والنصح والفلاح. . ثم الحذر الحذر من طلب العلم للأغراض الفاسدة والمقاصد السيئة من المباهاة والمماراة والرياء والسمعة، وأن يجعله وسيلة للأمور الدنيوية والرياسة. . )([64]).


المبحث الثالث عشر
تأثره بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم
الناظر في سيرة العلامة السعدي يتحقق أن من أعظم مشايخه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، رغم المسافة الزمنية الطويلة التي تربو على ستة قرون، فقد أقبل ابن سعيد على مؤلفات هذين الإمامين الجليلين إقبالاً منقطع النظير، فاستوعب كل ما حوته كتبهما من التحقيق العظيم في علوم السلف وحسن التوجيه والإرشاد، وحصل له بذلك سعة علم؛ خاصة في علم الأصول والتوحيد والتفسير والفقه وسواها من العلوم النافعة، وقد أكد ذلك معظم من ترجم للشيخ، وخصوصاً طلابه الذين تعلموا على يديه ونهلوا من معين حلقاته الفياضة.
يقول عنه تلميذه البسام: (. . وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم التي فتقت ذهنه ووسعت مداركه، فخرج من طور التقليد إلى طور الاجتهاد المقيد، فصار يرجح من الأقوال ما رجحه الدليل وصدقه التعليل. . )([65]).
ويقول تلميذه القاضي: (. . ولقد أكبَّ على المطالعة في كتب الفقه والحديث طيلة حياته؛ خصوصاً على كتب الشيخين ـ ابن تيمية وابن القيم ـ؛ فقد كانت له صبوحاً وغبوقاً. . )([66]).
ويقول ابنه عبد الله: (. . وكان أعظم اشتغاله وانتفاعه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وحصل له خير كثير بسببهما في علم الأصول والتوحيد والتفسير والفقه وغيرها من العلوم النافعة. . )([67]).
ولقد أثنى الشيخ ابن سعدي على الشيخين كثيراً في ثنايا كتبه الكثيرة، ونوه بما لهما من باع طويلة في التحقيق والتدقيق للمسائل العلمية.

ومن ذلك قوله في مقدمة كتابه (طريق الوصول): (. . أما بعد؛ فإنه لما كانت كتب الإمام الكبير شيخ الإسلام والمسلمين تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية قدس الله روحه، جمعت فأوعت؛ جمعت جميع الفنون النافعة والعلوم الصحيحة، جمعت علوم الأصول والفروع، وعلوم النقل والعقل، وعلوم الأخلاق والآداب الظاهرة والباطنة، وجمعت بين المقاصد والوسائل، وبين المسائل والدلائل، وبين الأحكام وبيان حكمها وأسرارها، وبين تقرير مذاهب الحق والرد على جميع المبطلين، وامتازت على جميع الكتب المصنفة بغزارة علمها وكثرته وقوته وجودته وتحقيقه، بحيث يجزم من له اطلاع عليها وعلى غيرها أنه لا يوجد لها نظير يساويها أو يقاربها. . وقد يسر الله الوقوف على كتبه الموجودة، فتتبعت ما وجدته في كتب هذا الإمام من الأصول والقواعد والضوابط النافعة، وأثبتها في هذا المجموع، ونقلتها بعبارات مؤلفها، إلا شيئاً يسيراً منها أوجب تغيير بعض الألفاظ. . )

وقال في موضع آخر: (. . ولما كان شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية قد سلك مسلك شيخه المذكور بالتحقيق للعلوم الأصولية والفروعية والظاهرية والباطنة، وكان أعظم من انتفع بشيخ الإسلام، وأقومهم بعلومه، وأوسعهم في العلوم العقلية والنقلية؛ أحببت أن أنقل من كتبه من الأصول والقواعد والضوابط والفوائد الجلية، وأتبعها لهذا الكتاب. . )([68]).
وقال في (المواهب الربانية): (. . ولا يخفى لطف الباري في وجود شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أثناء قرون هذه الأمة، وتبيين الله به وبتلامذته من الخير الكثير والعلم الغزير وجهاد أهل البدع والتعطيل والكفر، ثم انتشار كتبه في هذه الأوقات؛ فلا شك أن هذا من لطف الله لمن انتفع بها، وأنه يتوقف خير كثير على وجودها؛ فلله الحمد والمنة والفضل. .)([69]).

وقال في رسالته (الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين): (. . ومن أبلغ من تكلم عليها وأبطلها شرعاً وعقلاً شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فإنه بين عدة وجوه في فسادها وبطلانها، كل وجه منها كافٍ في إبطالها؛ فكيف إذا اجتمعت . . )([70]).
وقال في قصيدة نونية عصماء يثني على الإمامين، ويذكر بفضلهما وفضل كتبهما:

يـا طـالبا لعـلوم الشرع مجتهـداً *** يبغي انكشاف الحق والعرفان
احرص على كتب الإمامين اللذيـن *** هـمـا المـحـك لـهـذه الأزمـان
العـالـمين العـاملـين الحـافظيـن *** المعرضين عن الحطام الفانـي

إلى أن قال:
أعني به شيخ الورى وإـمامـهـم *** يعزى إلى تيمية الحرَّاني
والآخــر الـمـدعـو بـابـن الـقـيــم *** غرر العلوم كثيرة الألوان
فيهما اللذان قد أودعا في كتبهم *** غرر العلوم كثيرة الألوان
فيهـا الـفـوائد والمسـائل جمـعت *** من كل فاكهة بها زوجان([71])


المبحث الرابع عشر
شيوخه
تلقى المترجم له العلم على كثير من العلماء الذين برزوا في عصره، سواء منهم من كان في بلده عنيزة، أو من مرَّ عليها من العلماء، أو من سافر لهم الشيخ في أماكنهم وتلقى عليهم.
وكان محل إعجاب جميع مشايخه؛ لما توسموا فيه من فرط الذكاء وأمارات النجابة.
وكان رحمه الله معترفاً بالفضل لأهله، إذ كان كثيراً ما يثني على مشايخه، ويدعو لهم، ويصفهم بالورع والتقى والزهد والصلاح؛ كما سيأتي تفصيله في تراجمهم الموجزة إن شاء الله.
ولست في هذا المقام أحصر من تلقى عنهم العلم، بل أذكر أبرزهم، ممن ثبت لي بالتتبع أنه تلقى عليهم، وقد يكون هناك الكثيرون ممن تلقى عليهم ولم أطلع على ذلك، وفوق كل ذي علم عليم.

ومن مشايخه البارزين([72]):
1_ إبراهيم بن حمد بن جاسر:
ولد عام 1241هـ في بريدة، ونشأ فيها، وقرأ على علمائها ومشايخها، ثم تولى القضاء في عنيزة من عام 1318هـ إلى عام 1323هـ، ثم القضاء في بريدة من عام 1324هـ إلى عام 1326هـ، ثم سافر إلى الزبير وبصحبته مجموعة من أعيان أسرة آل بسام، ورجع منها إلى نجد عام 1329هـ، وجلس في بريدة يدرس، وبعد فترة أصيب بمرض، فسافر للعلاج، ولكن المنية أدركته في الكويت عام 1338هـ، وقيل: عام 1342هـ([73]).
وكان من أبرز طلاب الشيخ إبراهيم الشيخ عبد الرحمن السعدي، وكان من أول من قرأ عليه في علم الحديث والمصطلح والأصول والفروع والتفسير.
وقد وصف ابن سعدي سيخه بالحفظ العظيم للحديث النبوي الشريف، وكان كثيراً ما يتحدث عما وهبه الله من الورع والصلاح والتقوى والحدب على الفقراء ومواساة البؤساء، فكثيراً ما كان يقصده الفقير البائس في اليوم الشاتي، فيخلع عليه أحد ثوبيه، هذا مع شدة حاجته إليه، ومع قلة ذات يده.

2_ إبراهيم بن صالح بن إبراهيم القحطاني:
ولد في بلدة أشيقر في شهر شعبان من عام 1270هـ، ونشأ نشأة حسنة كريمة بتربية أبوية كريمة، وحفظ القرآن، وجوده عن ظهر قلب، وشرع في طلب العلم بهمة ونشاط ومثابرة، فقرأ على أعيان علماء الوشم، ثم رحل إلى سدير، فقرأ على علمائها، ثم رحل إلى الأحساء والحجاز والزبير، وطوف بلاداً كثيرة، حرصاً على طلب العلم وتحصيله، حتى أدرك بعض مبتغاه، وكان موفقاً في طلب العلم، يجمع بين الحرص والجد والمثابرة، وهذه من صفات طالب العلم المنتفع.
وبعد أن أدرك وحصل؛ جلس للتعليم في عنيزة، فاستفاد منه خلق كثير، وكان من أبرزهم الشيخ ابن سعدي، الذي قرأ عليه أصول الدين.
وقد كان ابن سعدي رحمه الله معجباً بشيخه؛ يثني عليه، ويذكر له براعته في التاريخ والأدب.
وقد توفي الشيخ إبراهيم شيخ السعدي في مدينة عنيزة في يوم السبت الثامن من شهر شوال من عام 1343هـ رحمه الله رحمة واسعة([74]).

3_ صالح بن عثمان القاضي:
ولد الشيخ صالح في شهر ربيع الأول من عام 1282هـ، وقد رباه والده أحسن تربية، ثم تولى تربيته أخواه حمد ومحمد، وقد قاموا بما عهد إليهم أتم قيام، فحفظ القرآن عن ظهر قلب، وتعلم القراءة والكتابة، وبدأ يطلب العلم حتى فاق فيه الأقران، وأصبح إماماً لا يشق له غبار، وقد توفي رحمه الله في عام 1351هـ.
ومن أبرز تلاميذه الشيخ عبد الرحمن السعدي، حيث قرأ عليه التوحيد والتفسير والفقه بأصوله وفروعه وعلوم العربية.
وقد لازمه ابن سعدي ملازمة تامة، حتى توفاه الله، وكان هو الذي يقرأ على الشيخ في الدرس، والشيخ يقرر على قراءته، بدأ القراءة على الشيخ بعد وفاة عبد العزيز الغدير الذي كان يقرأ على الشيخ، وكان ابن سعدي له صوت حسن رخيم لا يمله سامعه، كما كان يختم المجلس بالقراءة؛ لأنه كان ملازماً له في مجالسة عند الخاصة والعامة؛ لأن مجالس العلماء لا تخرج عن العلم؛ قراءة، وتعليماً، وتطبيقاً، وتوجيهاً، وإرشاداً([75]).

4_ صعب بن عبد الله بن صعب التويجري:
ولد في بريدة سنة 1253هـ، ونشأ نشأة حسنة، ورباه والده فأحسن تربيته، وقرأ القرآن وجوده ثم حفظه عن ظهر قلب، ثم شرع في طلب العلم، وأخذ عن ثلة من المشايخ في القصيم، ثم رحل إلى بعض البلاد النجدية والحجازية، حتى حصل الكثير.
وكان له تلاميذ من أبرزهم الشيخ عبد الرحمن السعدي، وكان التلميذ يثني على شيخه ويقول: إنه من أفضل أهل زمانه. وحسبك شهادة من أمثال ابن سعدي لهذا العالم الجليل.
وقد درس عليه الفقه وأصوله واستفاد منه كثيراً، خصوصاً في رحلته من بريدة إلى عنيزة، حينما جلس للتدريس.
وقد توفي الشيخ صعب في بريدة في الخامس والعشرين من محرم سنة 1339هـ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته([76]).

5_ عبد الله بن عائض العويضي الحربي:
ولد في عنيزة عام1249هـ، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة في بلده، ثم رحل إلى مكة المكرمة لطلب العلم، فقرأ على علمائها، مع اشتغاله بنسخ الكتب العلمية للكسب، فأجاد القرآن الكريم والعلوم العربية.
وقد عمل إماماً وقاضياً وواعظاً في بلده عنيزة، وتولى التدريس وقتاً طويلاً، وتعلم على يديه الكثير من طلاب العلم، ومن أشهرهم وأبرزهم الشيخ السعدي، حيث تعلم على يديه الفقه وأصوله وعلوم العربية.
وقد توفي الشيخ عائض ضحى يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر شوال عام 1322هـ في عنيزة، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته([77]).

6_ علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد السناني:
ولد في عنيزة عام 1263هـ، ونشأ في بلده التي ولد فيها، وكان والده عالماً، وقد توفي وولده علي في دور الطفولة، وقد نشأ الفتى محباً للعلم، راغباً فيه، وقرأ على علماء بلده ومن مر بها، وجد في تحصيل العلم، حتى أدرك الشيء الكثير، ثم تولى إمامة أحد الجوامع، وأخذ يعظ ويدرس، وهذا هو الطريق الأمثل للتعلم والتعليم وحفظ الوقت، وقد عرض عليه القضاء أكثر من مرة، ولكنه كان يرفض؛ إيثاراً للسلامة والعافية.
وكان من أخص طلابه الشيخ السعدي، حيث تعلم على يدي الشيخ أصول الدين.
توفي الشيخ السناني في عنيزة في العشرين من شوال عام 1339هـ، رحمه الله وجعله في المهديين([78]).

7_ علي بن ناصر بن محمد أبو وادي:
ولد في عنيزة عام 1273هـ، ونشأ بها، وقرأ على علمائها، ثم سافر داخل البلاد النجدية والحجازية، وبعدها رحل إلى الهند، وأخذ عن علمائها، وخصوصاً علماء الحديث وحفظ الصحاح والمسانيد، وبرع في ذلك.
وبعد أن عاد إلى عنيزة أصبح إماماً لأحد مساجدها، وجلس للتعليم والتدريس، فأقبل عليه الطلاب من كل مكان، وحرصوا على إجازته؛ ليتصل ذلك بعلماء الهند.
وكان من أبرز تلاميذه الشيخ السعدي، الذي أخذ عنه الصحاح الستة، وأجازه فيها وفي غيرها، وأخذ عنه التفسير وأصوله، وأصول الحديث، وكان ملازماً له، ومنتفعاً منه، وهكذا حال التلميذ مع شيخه، إذا حرص على الملازمة، وصاحب ذلك حرص وجد مثابرة؛ أدرك ما لم يدركه أترابه.
وقد طال عمر الشيخ أبو وادي، حتى عجز عن الذهاب إلى المسجد في آخر عمره، ووافته منيته في شهر شعبان عام 1361هـ، ودفن في بلده عنيزة رحمه الله وجعله من عباده الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون([79]).

8_ محمد الأمين محمود الشنقيطي:
ولد في شنقيط في موريتانيا سنة 1289هـ، وتعلم في بلاده، وأجاد علوم العربية، ثم رحل إلى البلاد الحجازية، وأقام بالمدينة النبوية، وقد وصفه بعض المؤرخين بالرحالة السلفي، وقد وفد الشنقيطي من المدينة إلى عنيزة عام 1330هـ، وأقام بها سنوات، وذلك حينما طلب الأمير علي باشا السعدون ـ أحد أمراء العراق ـ من الشيخ علي بن عبد الله البسام أن يجيء إليه من المدينة النبوية بعالم مالكي المذهب؛ ليكون إماماً وخطيباً ومدرساً للجامع الذي أنشأه في بلدة الزبير، فاختار الشيخ الشنقيطي لذلك، وعرض عليه، فوافق وسافر من المدينة إلى الزبير؛ مروراً بعنيزة.
وقد تسنى للشيخ السعدي أن يتعلم على يديه، ولازمه ملازمة تامة، وأخذ عنه التفسير والحديث ومصطلحه وعلوم العربية كالنحو والصرف وغيرها، وأخذ عنه إجازة بالرواية، وكان ذلك من فضل الله على ابن سعدي، حيث هيأ له قدوم هذا العالم السلفي دون سفر أو تعب.
وقد توفي الشنقيطي في الزبير صباح الجمعة الرابع عشر من جمادى الثانية سنة 1351هـ، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته([80]).

9ـ محمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن مانع:
ولد في عنيزة عام 1300هـ، ولما بلغ السابعة، أدخله والده كتاباً ليتعلم القرآن، وكان والده مريضاً إذ ذاك، وهو قاضي عنيزة، وبعد أيام توفي والده، فقرأ القرآن كله، وحفظ بعضه، ثم اشتغل بطلب العلم، فقرأ مختصرات العلوم الشرعية والعربية، ككتاب (التوحيد)، و(دليل الطالب)، و(بلوغ المرام)، ثم سافر إلى بغداد وقرأ هناك على ثلة من علمائها، وبعدها سافر إلى مصر وقرأ على مشايخ الأزهر، ثم إلى دمشق ولازم علماءها فترة من الزمن، ثم عاد إلى العراق ولازم مشايخه السابقين، واستفاد منهم كثيراً.
كان طموحاً، حريصاً على الاستفادة من وقته، فحصل الكثير في الزمن اليسير، وقد رزقه الله قوة في الحفظ ونشاطاً في الطلب وسرعة في الاستعياب؛ مما أهله أن يكون في صف العلماء الكبار.
وكان من أعماله التي تولاها:
1_ رئاسة النادي العلمي في البحرين، الذي أنشأه المحسن مقبل الذكير لتحرير المقالات ونشر الأبحاث التي ترد على المستشرقين والنصارى.
2_ وفي عام 1334هـ طلبه حاكم قطر من المملكة، فذهب هناك، وتولى القضاء والتدريس والفتوى والخطابة، واستقرَّ هناك ما يزيد على عشرين عاماً.
3_ وفي عام 1358هـ عاد إلى المملكة بطلب من الملك عبد العزيز رحمه الله، وتولى التدريس بالمسجد الحرام والمدارس الحكومية.
4_ تولى رئاسة هيئة تمييز الأحكام الشرعية وهيئة الأمر بالمعروف وهيئة الوعظ والإرشاد.
5_ عين في عام 1365هـ مديراً عاماً للمعارف، وبعدها أسندت إليه رئاسة دار التوحيد.
6_ وفي عام 1374هـ، طلبه حاكم قطر، وأسند إليه الإشراف على التعليم وإصلاح مناهجه، وكان من آثار ذلك طبع العشرات من الكتب النافعة التي كان له الفضل بعد الله في نشرها.
لقد قضى الشيخ ابن مانع حياته المديدة في طلب العلم وتعليمه، فأخذ عنه التلاميذ من مختلف منطقة الخليج، وتوافدوا إليه من عمان والإمارات والكويت والمنطقة الشرقية، وكان من أخص تلاميذه الشيخ ابن سعدي، الذي أخذ عنه علوم العربية واستفاد منه كثيراً، حيث طوف ابن مانع في كثير من البلاد العربية، وأخذ عن فطاحلتها في اللغة، فاستفاد من ذلك ابن سعدي دون عناء أو تعب.
ولقد خلف ابن مانع مجموعة كبيرة من التآليف، تشهد بغزارة علمه، ووفرة تحصيله.
وفي آخر حياته أصيب الشيخ ابن مانع بمرض البروستات، فأجريت له عملية جراحية في أحد مستشفيات بيروت، لكن حالته الصحية أخذت في التدهور، حتى وافاه الأجل المحتوم في اليوم السابع من شهر رجب سنة 1385هـ في بيروت، ونقل جثمانه إلى قطر، فصلي عليه هناك، ودفن فيها، رحمه الله رحمة واسعة([81]).

10_ محمد بن عبد الكريم بن إبراهيم بن صالح الشبل:
ولد في عنيزة عام 1257هـ، وأخذ في صباه وأول شبابه مبادئ القراءة والكتابة، ثم سافر من بلده إلى مكة، وأخذ عن علمائها، وبعدها سافر إلى مصر والشام والعراق والكويت والحرمين الشريفين، واجتمع بعلماء هذه الأمصار، وأخذ عنهم، وأجازوه، وأثنوا عليه كثيراً، ثم عاد إلى عنيزة وأكمل دراسته وتعلمه على مشايخها، حتى أدرك الشيء الكثير، وأصبح عالماً لا يشق له غبار.
وقد رغب عن المناصب، وزهد فيها، حيث عرض عليه القضاء والإمارة لبلدة عنيزة, فرفض، واختار إمامه مسجد الجوز والتدريس والتعليم وإلقاء الدروس العامة وتنشئة التلاميذ، وقد وفق في ذلك إلى حد كبير، وكان من أبرز تلاميذه وأكثرهم أخذاً عنه الشيخ السعدي، حيث أخذ عنه الفقه وأصوله وعلوم اللغة العربية وغيرها.
ولقد استفاد ابن سعدي من شيخه كثيراً، ولازمه، فحصل في الزمن اليسير ما لم يحصله أترابه في الزمن الطويل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وبقي الشيخ الشبل يدرس ويعلم ويوجه ويرشد حتى وافاه الأجل المحتوم في عنيزة عام 1343هـ، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته([82]).

11_ محمد بن عبد الله بن حمد بن محمد سليم:
ولد في بريدة عام1240هـ، ونشاء وتعلم في كتاتيبها مبادئ القراءة والكتابة، ثم حبب إليه العلم، فشرع في القراءة على علماء القصيم، ولازمهم ملازمة تامة، ثم رحل إلى الرياض، وأخذ عن علمائها، ثم إلى شقراء وأخذ عن علمائها، ولم يزل في الجد والاجتهاد والتحصيل حتى أدرك إدراكاً تاماً، خصوصاً في العلوم الشرعية والعلوم العربية.
وبعد ذلك عاد إلى عنيزة، وأخذ يدرس ويعلم ويوجه ويرشد، لكن حدث بينه وبين محمد الصالح أبو الخيل بعض الخلاف، فغضب عليه محمد، وأكد على أمير بريدة أن يخرجه منها، فرحل إلى عنيزة، فأكرموه، وتزوج منها، وجلس فيها للتدريس والتعليم، وكان يحرص كل الحرص على كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، ولذا اشتهر بسعة الاطلاع وقوة الحجة، وكان من أبرز تلاميذه الشيخ السعدي الذي أخذ عنه التوحيد وغيره، واستفاد منه العناية بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
وقد توفي الشيخ ابن سليم عام 1323هـ في بريدة، رحمه الله رحمة واسعة([83]).
وبعد؛ فهؤلاء هم أبرز مشايخ ابن سعدي.

وبهذا نعرف مكانة الشيخ، وغزارة علمه، وكثرة تحصيله، حيث تعلم على يد هؤلاء وغيرهم ممن تخصصوا في شتى العلوم والفنون، وهذا ما أهله أن يدرك ما لم يدركه أترابه، حيث توفر له ثلة من المشايخ، وصاحب ذلك جدُّ واجتهاد ونية صالحة وعزيمة صادقة، ومتى توفر ذلك للشخص؛ انتفع ونفع بإذن الله.
ولذا ليس غريباً أن نرى هذه المؤلفات الكثيرة لابن سعدي، بل وليس غريباً أن نرى طليعة العلماء والقضاة في هذا الوقت من تلاميذه وممن درسوا عليه، وهذا يتبين في المبحث التالي إن شاء الله.


المبحث الخامس عشر
تلاميذه
تعلم على يد ابن سعدي تلاميذ كثيرون، قد لا يستطيع الباحث حصرهم، لكنني حرصت على الاطلاع على ما كتب عن الشيخ، وسألت مجموعة من أبرز تلاميذه لمحاولة حصر أكبر عدد منهم، ومع ذلك لم أصل إلى النتيجة المرضية.
وقد وقفت على حوالي خمسين من طلابه ممن تقلدوا مناصب علمية كبيرة ومناصب قضائية عالية، وكان لهم إسهام وافر في الحركة العلمية التي نشهدها ولله الحمد، ومن أبرز هؤلاء([84]):

1_ إبراهيم بن عبد العزيز الغدير:
ولد في عنيزة في جمادي الأولى من عام 1322هـ، ونشأ نشأة حسنة، ورباه والده تربية صالحة؛ لأن والده من طلبة العلم، وهو القارئ في جامع عنيزة الكبير، لأنه كان ذو صوت حسن رخيم، وقد توفي والد إبراهيم، ثم تولاه أخوه الأكبر عبد الرحمن، فدفعه لطلب العلم، وحثه عليه، وشجعه على التحصيل، وكفاه مؤنة العيش، فأقبل بجد واجتهاد، ولازم شيخه ابن سعدي من عام 1340هـ حتى توفي ابن سعدي عام 1376هـ.
خلف شيخه علي أبو وادي في إمامة جامع الجديد بعنيزة، وبعد أن افتتح المعهد العلمي، رشح مدرساً فيه عام 1373هـ، إلى أن أحيل على المعاش عام 1383هـ، واستمر في التعليم والتوجيه والوعظ حتى وافاه الأجل المحتوم في يوم عيد الفطر عام 1401هـ، رحمه الله رحمة واسعة([85]).

2_ إبراهيم بن محمد العمود:
ولد في عنيزة عام 1324هـ، وتربى على يد والده تربية حسنة، وقرأ القرآن، وحفظه عن ظهر قلب، وشرع في طلب بهمة عالية ونشاط ومثابرة، فقرأ على خاله الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، ولازمه زمناً في الفقه والحديث، واستفاد منه كثيراً، حتى ذهب مع ثلة من المشايخ إلى اليمن للوعظ والإرشاد، وذلك عام 1354هـ، ثم تعين قاضياً في عسير، ثم تولى القضاء في الدمام عام 1363هـ، ثم نقل قاضياً في الرياض عام 1380هـ، حتى أحيل على المعاش علم 1382هـ، وتفرغ للعبادة، وأخذ ينتقل بين الرياض والحرمين للتزود من التقوى، حتى وافاه الأجل المحتوم في 18 من جمادى الآخرة عام 1394هـ، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته([86]).

3_ حمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن القاضي:
ولد في عنيزة عام 1323هـ، ونشأ نشأة حسنة، وقرأ القرآن وحفظه عن ظهر قلب، وتعلم مبادئ العلوم والكتابة وغيرها في المدرسة، ثم شرع في طلب العلم، فقرأ على علماء عنيزة، ومن أشهر مشايخه الشيخ ابن سعدي، حيث لازمه ملازمه تامة، وقرأ عليه الأصول والفروع والحديث والفرائض، وكان حريصاً على الاستفادة والتحصيل، فثابر وجد واجتهد، حتى أدرك الكثير.
وفي سنة 1367هـ طلب منه الشيخ ابن عودان أن ينوب عنه في قضاء عنيزة مدة غيابه في الرياض، فامتنع الشيخ حمد تورعاً.
وفي سنة 1370هـ تعين مدرساً ثم مديراً لمدرسة أم تلعة الابتدائية بالبدايع، ثم تقلب في التعليم، حتى أحيل للمعاش عام 1386هـ، وتفرغ للعبادة والتعليم والتوجيه، وكان يتعامل بالبيع والشراء، وقد كسب الناس في حسن تعامله، واستمر على هذه الحال إلى أن مرض في شهر ربيع الأول سنة 1395هـ، ولزم الفراش، وامتد مرضه بجلطة دموية أفقدته شعوره في عنيزة، فنقله أولاده إلى المستشفى المركزي بالرياض، وتوفي فيه مساء يوم الجمعة الموافق 16 من شهر ربيع الأول من عام 1395هـ، ودفن في الرياض بعد أن صلي عليه، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته([87]).

4_ حمد بن عثمان الخويطر:
ذكره ضمن تلاميذ الشيخ ابن سعدي صاحب (روضة الناظرين)([88]).

5_ حمد الصغير القاضي بمدينة الرس:
ذكره ضمن تلاميذ الشيخ السعدي صاحبا(علماء نجد) و(روضة الناظرين)([89]).
6_ حمد بن محمد البسام:
درس في معهد عنيزة العلمي، ثم في فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في القصيم، كان هو القارئ على الشيخ في الدرس.
ذكره ضمن تلاميذه صاحبا (علماء نجد) و(روضة الناظرين)([90]).

7_ حمد بن محمد المرزوقي:
ولد في عنيزة عام 1346هـ، فتربى تربية حسنة، فقرأ القرآن وحفظه عن ظهر قلب ولما يبلغ الخامسة عشرة، ثم شرع في طلب العلم بهمة ونشاط ومثابرة، ودرس على كبار تلاميذ ابن سعدي، ثم انضم إلى حلقة شيخه ابن سعدي، حيث قرأ عليه الأصول والفروع والحديث والتفسير، وحصل الكثير، ولما افتتح المعهد العلمي في عنيزة؛ التحق به عام 1373هـ، ثم تخرج فيه، والتحق بكلية الشريعة بالرياض، وتخرج فيها عام 1380هـ، ثم تعين مدرساً بمعهد حايل العلمي، واستمر فيه أربع سنوات، ثم انتقل إلى معهد النور بعنيزة، فدرس فيه حتى عام 1405هـ، ثم انتقل عام 1406هـ إلى متوسطة فلسطين بعنيزة، وأخيراً أحيل على التعاقد عام 1406/1407هـ، نفع الله به حيثما وجد، ووفقه لخيري الدنيا والآخرة.

8_ سليمان بن إبراهيم البسام:
ولد في عنيزة في 27 صفر عام 1328هـ، وتربى على الصلاح والتقى، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة في الكتاتيب، ثم اشتغل منذ صغره بالعلم، فقرأ على الشيخ ابن سعدي في الفقه والحديث والتفسير، ولازمه ملازمة تامة، فكان لا يغيب عن درس من دروسه إلا نادراً، وجدَّ واجتهد حتى أدرك، لا سيما في الفقه؛ فقد تردد في القراءة والبحث في كتب المذهب، حتى بلغ في فهمها واستحضار دقائق مسائلها شأواً بعيداً.
يقول عنه تلميذه عبد الله البسام: (وفي ظني أنه حين وفاته كان أفقه زمانه في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، هذا مع استقامة وصلاح وحسن خلق وتواضع وطيب عشرة، أما غير الفقه الحنبلي؛ فله يد في بقية العلوم الشرعية)([91]).
وقد عين قاضياً فرفض، ثم عين مدرساً في معهد عنيزة، واستمر حتى وفاته، حيث أصيب بضغط الدم، فسافر للعلاج في 7/12/1376هـ، ومر بالعراق ولبنان وسوريا، ثم عاد إلى بلده، ووافاه الأجل المحتوم ضحوة يوم 14/3/1377هـ، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

9_ سليمان بن صالح البسام:
من خواص الشيخ ابن سعدي المقربين عنده، ولهذا صار له يد طولى في العلوم الشرعية والعلوم العربية، واطلاع واسع على التاريخ الجاهلي والإسلامي، ومعرفة بأنساب العرب القديم منها والحديث، يحفظ الكثير من الأشعار، يعتبر من أعيان عنيزة، ويتعاطى بالتجارة، لكنها لا تشغله عن العلم والأدب والبحث؛ اطلاعاً، وتعليماً، ومناقشة، بل يعطي كل ذي حق حقه.

10_ سليمان بن عبد الرحمن الدامغ:
له اطلاع على عموم العربية، درس على الشيخ ابن سعدي، وذكره ضمن تلاميذه صاحبا (علماء نجد) و (روضة الناظرين)([92])، عين إماماً لمسجد الجزيرة بعنيزة، ودرس في مدارس الرياض فترة، له ميول لغوية.

11_ سليمان بن محمد الشبل:
ولد في عنيزة عام 1312هـ في بيت علم وشرف ودين، وتربى على يد أبيه تربية حسنة، وكان أبوه فقيهاً محدثاً، أخذ معلوماته من الهند والشام والحجاز، فنشأ ولده سليمان في كنفه نشأة صالحة.

قرأ القرآن وحفظه على مقرئ في عنيزة، ثم مالبث أن حفظه عن ظهر قلب وجوده، وأخذ يراجع فيه أباه، فكانا يختمان معاً كل ثلاث ليال، وكان قوي الحافظة.
طلب العلم وهو يافع، ومن أبرز مشايخه والده ثم الشيخ ابن سعدي، حيث لازمه ودرس عليه الأصول والفروع والحديث، ولازمه حتى سافر للحجاز، وهناك درس على علماء الحرمين، وكان ذلك سنة 1347هـ، ثم سافر إلى الهند وأخذ عن علمائها الحديث والمصطلح، ثم إلى العراق وأخذ عن علماء الحنابلة فيها الفقه، ثم رجع إلى مكة وتعين مدرساً وتنقل بين مدارسها ومدارس الطائف، وأخيراً استقر به المطاف مدرساً في عنيزة، ومكث فيها عشرين سنة.
كان ذكياً، نبيهاً، واسع الاطلاع، يؤثر الخمول، ولا يحب الشهرة، وصولاً للرحم، محباً لمجالس أهل الخير والصالحين.
امتاز رحمه الله بإخلاص في عمله، وحسن التعليم والتوجيه، واستمرت هذه حاله حتى وافاه أجله المحتوم سنة 1386هـ، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته([93]).

12_ صالح بن عبد الله الزغيبي:
ولد في عنيزة عام 1300هـ، ونشأ نشأة صالحة، وتربى على يد أبيه، قرأ القرآن واستظهره، ثم حفظه عن ظهر قلب، ثم شرع في طلب العلم بهمة ونشاط ومثابرة، فقرأ على ثلة من علماء عنيزة، ومنهم الشيخ ابن سعدي، مع أنه زميل له، لكنه استفاد منه كثيراً في المراجعة والمذاكرة، وهذا هو التواضع المحمود.
كان نبيهاً، قوي الحفظ، سريع الفهم، آية في الورع والزهد والتقوى والاستقامة في الدين، وكان يؤانس جليسه، حديثه محبب للنفس، ومجالسه مجالس علم وأدب، رشح للقضاء فاعتذر تورعاً، ثم عين بأمر الملك عبد العزيز رحمه الله إماماًَ وخطيباً ومرشداً وواعظاً في المسجد النبوي الشريف، وذلك سنة 1344هـ.
كان صوماً، قواماً، يحب المساكين ويحنو عليهم، عزيز النفس، كريماً بما في يده، كثير الوعظ والإرشاد، ولمواعظه أثر كبير في نفوس السامعين.
استمر على هذه الحال حتى مرض في شهر رمضان، ووافاه أجله بالمدينة النبوية في شهر شوال من عام 1371هـ([94]).
وذكر الشيخ البسام أن وفاته سنة 1372هـ، فقال: (. . وكان زميلاً للشيخ عبد الرحمن السعدي في الدراسة، ويكبره في السن، ولكنه عرف تفوق زميله عليه، فصار يأخذ عنه ويتلمذ له ويستفيد منه).
(. . وقد توفي وهو في عمله ـ إمامة المسجد النبوي ـ بالمدينة المنورة، ودفن في البقيع، في شهر صفر من عام 1372هـ. . )([95]).

13_ صالح بن محمد الزغيبي:
ذكره ضمن تلاميذ الشيخ ابن سعدي صاحب كتاب (علماء نجد خلال ستة قرون)، وذكر أنه درس في الثانوية بمكة المكرمة([96]).


14_ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن زامل آل سليم:
أحد تلاميذ الشيخ ابن سعدي الأقدمين؛ لأنه يقارب ابن سعدي في السن، ويعد من أعيان مدينة عنيزة، وكان ملازماً لشيخه ابن سعدي وقت الطلب، ولذا كان بينهما محاورات وجلسات أثمرت مناقشات وقصائد، منها القصيدة التي قالها الشيخ عبد الرحمن آل سليم في شيخه عبد الرحمن السعدي، ومن أبياتها:

دَعْ عَنكَ ذِكر الهوى واذكرأخا ثقةٍ *** يَدعُو إلى العلم لم يَقْعد بهِ الضجرُ
شَمسُ العُلوم ومن بالفَضْل منتصـفٌ *** مفتاحُ خيرٍ إلى الطاعاتِ مُبتكـرُ
بَحرُ من العِلْم نلَ العلمَ فـي صـغـرٍ *** مع التُّقَى حيثُ ذاكَ الفوزُ والظفرُ
نـالَ العُـلا يافـعـاً تَعلـو مراتِـبُهُ *** ففضلُهُ عندَ كل النَّاسِ مُشتهـــرُ
بالفقهِ في الدينِ نِالَ الخَيرِ أجْمَعَهُ *** والفقهُ في الدينِ غُصنُ كُلهُ ثَمَرُ

15_ عبد الرحمن بن محمد السماعيل:
قرأ على الشيخ ابن سعدي الأصول والفروع والحديث والتفسير، ولما افتتح المعهد العلمي بعنيزة؛ انتسب له، ولما نال الشهادة الثانوية من المعهد؛ التحق بكلية الشريعة عن طريق الانتساب، فخرج فيها عام 1392هـ، ثم درس في مصر بمعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة.
وقد تولى التدريس في مدارس عنيزة، ثم عيَّن مديراً لمدرسة الرحمانية، ثم عيَّن موجهاً للتربية الإسلامية بإدارة التعليم بمدينة عنيزة حتى أحيل على التقاعد، وكان يخلف والده في إمامة المسجد والخطابة فيه، وبعد وفاة والده تولى الإمامة والخطابة.

16ـ عبدالرحمن بن محمد المقوشي:
درس على الشيخ ابن سعدي فترة من الزمن، وقد عُين قاضياً في الرياض، ثم أحيل للتقاعد.

17_ عبد الرحمن العقيل:
درس على الشيخ ابن سعدي كثيراً من العلوم، ثم عيَّن قاضياً في جيزان.

18_ عبد العزيز بن سبيل:
عيَّن قاضياً في البكيرية، ثم درس بالمسجد الحرام.

19_ عبد العزيز بن علي بن مساعد العبد المنعم:
ولد في عنيزة عام 1346هـ، وتربى تربية حسنة، نشأ في حجر أبيه، وكان والده محباً للعلم وأهله، حفظ القرآن صغيراً، وشرع في طلب العلم بهمة ونشاط، وقد تلقى العلم على يدي الشيخين الفاضلين عبد الرحمن بن عودان وعبد الرحمن بن سعدي، ولازم الثاني منهما ملازمة طويلة، فقرأ عليه في الأصول والفروع والحديث والتفسير، ولما فتح المعهد العلمي بعنيزة؛ التحق به، فنال الشهادة الثانوية، ثم التحق بكلية الشريعة بالرياض، وتخرج فيها عام 1380هـ، ثم درس في معهد الرياض العلمي، ثم معهد عنيزة العلمي حتى أحيل على التعاقد عام 1407هـ، وله نشاط واسع في الدعوة إلى الله داخل عنيزة وخارجها.

20_ عبد العزيز بن محمد البسام:
تميز من بين طلاب الشيخ ابن سعدي بأنه ينوب عن شيخه إذا غاب في إمامة الناس في الصلاة وفي الخطابة يوم الجمعة.

21_ عبد العزيز بن محمد السلمان:
أحد العلماء البارزين الذين أثروا المكتبة الإسلامية في الوقت الحاضر وخصوصاً في مجال الوعظ والإرشاد، وله كتب ذات انتشار كبير، قلمه سيال بالتأليف، سلك طريق شيخه السعدي بكثرة المؤلفات، له تعليقات فريدة في الفقه والتوحيد، طبعت بعض كتبه ما يزيد على عشرين طبعة، من أبرز مؤلفاته:
الأسئلة والأجوبة الفقهية والتنبيهات على العقيدة الواسطية وموارد الظمآن) وغيرها كثير مما انتفع به المسلمون ولا يزالون، جزى الله الشيخ خير ما يجزي عباده الصالحين.
وقد عمل الشيخ لفترة طويلة مدرساً بمعهد إمام الدعوة العلمي، ثم تقاعد وتفرغ للعلم والتعليم والتأليف.

22_ عبد الله بن حسين آل بريكان:
درس في معهد عنيزة العلمي.

23_ عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام:
عضو هيئة التمييز وعضو هيئة كبار العلماء، وله مشاركات فعالة في كثير من المجالس والمؤتمرات، له باع طويل في التأليف، أبرز مؤلفاته وأنفعها (تيسير العلام) في الحديث، وقد انتفع منه صغار طلاب العلم نفعاً عظيماً في بداية طلبهم، وكذا (نيل المآرب) في الفقه في مجلدين، وهو من أحسن الكتب الحديثية التي اعتنت بالدليل والتعليل وترجيح العلماء المعاصرين، له دروس منتظمة في المسجد الحرام، وهي من أنفع الدروس؛ لغزارة المادة العلمية، وحسن العرض، وقد حضرتها لسنوات متعددة، وخصوصاً في شهر رمضان.

14_ عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد البسام:
تميز عن زملائه طلاب الشيخ ابن سعدي بأنه أفضلهم في إعادة الدرس بعد أن يلقيه شيخه ويطلب من الطلاب إعادته.

25_ عبد الله بن عبد الرحمن بن ناصر السعدي:
ابن الشيخ عبد الرحمن، وكان ذا عناية فائقة بطبع مؤلفات والده وجمعها وعرضها على بعض العلماء، وقد ترجم لوالده ترجمة موجزة، نشرت بعد وفاة والده، وذيلت في كثير من كتبه.

26_ عبد الله بن عبد العزيز الخضيري:
درس في أول حياته على الشيخ ابن سعدي، ثم عُيِّن قاضياً، فاستمر فيه سبع سنوات مثالاً للورع والزهد والنزاهة، ولما فتح المعهد العلمي بالرياض؛ ألحَّ بطلب الإعفاء من القضاء، فأعفي منه، وعُين مدرساً في معهد الرياض العلمي عام1373هـ، ثم انتقل إلى معهد شقراء العلمي، فمعهد بريدة العلمي، وهناك لازم الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، ودرس عليه، ثم نُقل إلى معهد المدينة العلمي، ولازم علماء المدينة، وخصوصاً الشيخ عبد العزيز ابن باز والعلامة محمد الأمين الشنقيطي.
كان حسن الأخلاق، محبوباً للخاص والعام، قد انعكست عليه أخلاق الصالحين والعلماء والعاملين، واستمر في المدينة حتى وافاه أجله عام 1393هـ، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

27_ عبد الله بن عبد العزيز الشبيلي:
ولد في عنيزة عام 1338هـ، ونشأ نشأة صالحة، حيث ربَّاه والده وتعاهده حتى حفظ القرآن، ثم نشأ محباً للعلم وأهله، ولذا رغب في الانضمام لحلقة شيخه ابن سعدي، فانضم إليها ولازم ابن سعدي ملازمة تامة، وقرأ عليه في الأصول والفروع والحديث والتفسير والعربية، ثم رشح للتدريس في معهد عنيزة العلمي عام 1376هـ في السنة التي توفي فيها شيخه، واستمر فيه حتى أحيل على التقاعد عام 1404هـ، وكان له نشاط ملموس في الدعوة حيث كان إماماً وخطيباً في أحد مساجد عنيزة.

28ـ عبد الله بن عبد العزيز العقيل:
استفاد من شيخه الكثير، ونقل آراء شيخه إلى بعض المحافل العلمية تدرج في مناصب كثيرة، كان آخرها مجلس القضاء الأعلى حتى طلب الإحالة على التقاعد جلست معه ذات مرة فكان وفياً لشيخه يثني عليه كثيراً ويحضر المناسبات التي لها صلة بحياة شيخه العلمية، كمناقشة الرسائل العلمية وغيرها.

29ـ عبد الله بن عبد العزيز المطوع:
ولد في عنيزة عام 1412هـ تقريباً ونشأ نشأة صالحة، فتربى على يد ابيه، وحفظ القرآن وجوده ثم شرع في طلب العلم بهمة ونشاط ولازم شيخه ابن سعدي ملازمة تامة، فقرأ عليه في الأصول والفروع والتفسير والحديث وتنقل داخل الديار النجدية والحجازية يطلب المزيد من العلم حتى أدرك الكثير.

وقد أوذي كثيراً بسبب حبه وإخلاصه لدعوة التوحيد، حتى سجن في الحجاز لكنه هرب وكانت له مواقف في حياة الملك عبد العزيز ولذا أحبه وقربه وأمر بعلاجه من إصابة حصلت عليه في إحدى المعارك، فسافر للعلاج في البحرين، ثم رجع ولازم الفراش حتى وافاه أجله المحتوم في حدود عام 1354هـ، رحمه الله رحمة واسعة.

30ـ عبد الله بن محمد الصخيان:
نشأ في عنيزة وقرأ على علمائها ومن أبرز مشايخه عبد الرحمن بن سعدي، حيث لازمه سنين طويلة ، وقرأ عليه في أصول الدين والفروع والحديث والتفسير وعلوم العربية وقد لازمه حتى توفي ولما افتتح المعهد العلمي بالرياض؛ التحق به، ثم انتقل إلى معهد عنيزة عام 1373هـ، وتخرج فيه، ثم التحق بكلية الشريعة بالرياض وتخرج فيها وكان نابغة متفوقاً على زملائه.
عين قاضياً في الطائف عام 1380هـ، ثم مدرساً بالمعهد العلمي بشقراء، ثم مدرساً بمعهد الرس العلمي، ثم معهد عنيزة العلمي ثم نقل إلى مدرسة تحفيظ القرآن الكريم.
كان يحفظ كثيراً من المتون، مغرماً بالاطلاع لا يكاد يمل من القراءة لديه مواهب وقدرات كبيرة، مرض عام 1400هـ، وسافر للعلاج لكن المنية عاجلته عام 1401هـ، رحمه الله رحمة واسعة.

31ـ عبد الله بن محمد العوهلي:
درس في معهد مكة العلمي.

32ـ عبد الله بن محمد الفهيد:
كان إماماً لمسجد القاع في عنيزة.

33ـ عبد الله بن محمد المطرودي:
اشتهر بأنه كان يحفظ (صحيح البخاري) بأسانيده.

34ـ علي بن محمد المطرودي:
له نشاط واسع في نشر رسائل شيخه، وهو صاحب مطبعة النور، وكل إليه الشيخ رحمه الله تدريس صغار الطلبة.
قدم الكثير من رسائل شيخه، وأبرزها إلى الوجود، فانتفع بها خلائق كثيرون.

35_ علي بن زامل آل سليم:
له عناية كبيرة بالعربية، حتى إنه يقال: إنه أعلم أهل زمانه بالنحو، عُيِّن مدرساً في معهد عنيزة العلمي، ثم عُيِّن أستاذاً غير متفرغ بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم، وكان يدرس التفسير حتى تقاعد، ولا يزال له جهود في التدريس في حلقات العلم، وخصوصاً في علوم العربية.

36_ محمد بن سليمان البسام:
كان أخص أصحاب شيخه ابن سعدي، وقد درس في الحرم المكي الشريف فترة من الزمن.

37_ محمد بن صالح الخزيم:
قرأ القرآن وجوده ثم حفظه، وبعد ذلك تعلم قواعد الخط والحساب، ثم شرع في طلب العلم على علماء القصيم، وقد لازمهم ملازمة تامة، وقرأ عليهم في أصول الدين والفروع والحديث والتفسير وعلوم العربية، ثم جلس على ابن سعدي، واستفاد منه كثيراً، حيث كان يمكث الأشهر في عنيزة يحضر دروس ابن سعدي، ولقد أثنى عليه شيخه كثيراً، حيث كان يقول: إن أسئلته واستنتاجاته واستقراءاته تدل على موهبة كبيرة وعقلية مدركة.
وفي عام 1368هـ عُيِّن قاضياً في الرس، ثم في المذنب، ثم في عنيزة، وفي كل هذه المدن يؤم الناس ويلقي الدروس ويعقد الحلقات، حتى مرض مرضاً شديداً، وطلب الإعفاء من القضاء، وتفرغ للعبادة والتعليم، حتى توفي عام 1394هـ، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

38_ محمد بن صالح العثيمين:
شيخنا محمد أحد أبرز تلاميذ ابن سعدي، وهو الذي تولى الخطابة بعده، له قدم راسخة في العلم، ودروسه في الجامع الكبير في عنيزة مضرب المثل في الحلقات العلمية الجادة الرصينة، تخرج على يديه مئات الطلاب له إسهامات وافرة في شتى العلوم والمعارف، تخرج في كلية الشريعة، ثم درس في معهد عنيزة العلمي، ثم عين أستاذاً في فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالقصيم، عضو هيئة كبار العلماء، له مشاركات إعلامية جادة، خصوصاً في برنامج نور على الدرب، له رسائل كثيرة جداً، وطُبع له مجموعة من الفتاوى والدروس التي ألقاها في الحرم وغيره، له نشاط ملموس في الدعوة إلى الله، وذلك بإلقاء المحاضرات في كثير من الأحيان، وفي أنحاء المملكة في شرقها وغربها وشمالها وجنوبها ووسطها، حباه الله قوة في الاستدلال، ومهارة في النقاش، وقدرة على استحضار المسائل المتفرقة وجمعها، مما يستطيع به إقناع المقابل بكل يسر وسهولة، له مكانة عظيمة في نفوس طلابه ومحبيه، حتى إنك لا تكاد تجد جامعة أو هيئة علمية إلا وفيها أحد تلاميذه البارزين، له عناية خاصة يمتاز بها على غيره في الدروس، حيث يحرص على استمرارها وعدم قطعها مهما كانت الشواغل والعوائق، طبع له ما يزيد على عشرين ما بين كتاب ورسالة، متعه الله بالصحة والعافية، ونفعنا بعلومه.

39_ محمد بن صالح الفضيلي:
عين قاضياً في تيماء.
40_ محمد بن عبد الرحمن بن حنطي:
ولد في مدينة شقراء عام 1338هـ، ونشأ نشأة صالحة تحت نظر والده وتوجيهه، وقد أكبَّ على كتاب الله منذ نعومة أظفاره في بلدة شقراء، ثم انتقلت الأسرة إلى عنيزة، فواصل تعلمه لكتاب الله وقراءته وحفظه وتجويده، ثم سافر إلى الرياض لطلب العلم، ووجد من والده تشجيعاً منقطع النظير، ومكث في الرياض ست سنوات من عام 1354هـ حتى عام 1360هـ، ولازم علماء الرياض على أئمة الدعوة في الأصول والفروع والحديث والفرائض، ثم رجع إلى عنيزة عام 1360هـ، واتصل بشيخه ابن سعدي، فأعجب بطريقته في التدريس، ولازمه ملازمة تامة حتى عام 1367هـ، ثم رجع إلى الرياض، وواصل طلب العلم، حتى التحق بمعهد الرياض العلمي عام 1372هـ، ثم تخرج فيه، والتحق بكلية الشريعة بالرياض، وتخرج فيها عام 1380هـ.
وبعد تخرجه عين قاضياً في الدرعية مدة أربع سنوات، ثم رغب بالتحول إلى التدريس، فعين مدرساً بمعهد الرياض العلمي حتى عام 1395هـ، حيث أحيل على التقاعد، وكانت له إسهامات مباركة في الدعوة والتوجيه وحلقات العلم.

41_ محمد بن عبد العزيز المطوع:
ولد في عنيزة عام 1317هـ، ونشأ فيها، وقرأ على علمائها، ثم قرأ على علماء بريدة حتى أدرك الشيء الكثير.
قال عنه صاحب كتاب (علماء نجد) : (. . وكان شغوفاً بمطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وكان أجود زملائه في علم التوحيد والعقائد وعلم النحو)([97]).
ومن أبرز مشايخه الشيخ عبد الرحمن السعدي، حيث لازمه ملازمة تامة، واستفاد منه فائدة كبيرة في التوحيد والتفسير والحديث والفقه والنحو، مما جعل الشيخ ابن سعدي يكفله بالجلوس لصغار الطلبة لتعليمهم مبادئ العلوم الشرعية، وكان موفقاً فيما أسند إليه، وقد تولى قضاء المجمعة، ثم عنيزة، ثم الخرج، حتى أصيب بمرض ضغط الدم، وسافر إلى لندن للعلاج، وتوفي فيها، ودفن فيها في 18/7/1387هـ رحمه الله.

42_ محمد بن عبد الله المانع:
ولد في مدينة عنيزة عام 1309هـ، وكان بيته بيت علم ودين وصلاح، فنشأ في هذا المحيط الطيب، وشب على الاستقامة والصلاح والرغبة في العلم، ولذا حفظ كثيراً من المتون في صغره، وكان يسردها كما يسرد الفاتحة، وكان ابن سعدي وعثمان القاضي ـ وهما عالمان جليلان من علماء عنيزة ـ من أترابه، فاستفاد منهما فائدة كبيرة، إذ كانت له معهما جلسات ومناقشات، وقد توفي وهو شاب في مقتبل عمره في الوباء الذي أصاب بلاد نجد عام 1337هـ، وقد توفي في أيام وفاته زميلان آخران له، هما محمد العبدلي وعبد المحسن السلمان، والثلاثة من أصحاب الشيخ ابن سعدي، فرثاهم بقصيدة طويلة منها:

ماتَ المحبُّ ومات الخِلُّ يتبعه تبَعُهُ *** ومَــات ثالـثـُهُـمْ والوَقـتُ مُـقـتَربُ
ـماتُـوا جَميعـاً ومَـا مَـاتَ فضلُهُـمُ *** بـل كـان فضلُهُمُ للـناس يُـكْـتَـسَبُ
كـانـوا نجوم ديـاجٍ يُستضاءُ بهــم *** لهفي على فقدِهمْ من بعدِمَا ذهبوا

إلى أن قال:
ما ودعُوني غَداة َالبينِ إذ رَحَلُـوا *** بَلْ أودعُوا قلبي الأحزانَ وانقَلبوا
شَيعتُـهمْ ودُمـوعُ العَيـنِ ساكـبةٌ *** لِفقدهِم وفــؤادِي حـَشــوُهُ لَـهـبُ


43_ محمد بن عثمان القاضي:
ولد في عنيزة عام 1346هـ في بيت علم وشرف ودين، ونشأ نشأة حسنة، ودخل المدارس النظامية في سن مبكرة، وحفظ القرآن وجوده، وشرع في طلب العلم بهمة ونشاط، وقد وفق بعلماء أجلاء في عنيزة، ومن أبرزهم والده والشيخ ابن سعدي، حيث لازمه ملازمة تامة، وحصل منه الكثير، ثم لازم الشيخ ابن عثيمين، واستفاد من دروسه وحلقاته، له باع طويل في الأنساب، وله كتاب يعد من أفضل الكتب وأدقها وأشملها، وخصوصاً في قبائل نجد، ولعل من تمام نعمة الله عليه أن وفق في عمل يزيده علماً ويدفعه للقراءة والكتابة والبحث، حيث كان قيماً للمكتبة الصالحية بعنيزة، وإماماً وخطيباً في أحد جوامعها.

44_ محمد بن منصور الزامل:
ولد في عنيزة عام 1325هـ، ونشأ نشأة صالحة، وتعلم في الكتاب مبادئ القراءة والكتابة، وأقبل على تعلم كتاب الله وحفظه وتجويده، ثم كرس جهده لطلب العلم على الشيخ ابن سعدي، وتعلم على يديه علوم الشريعة من فقه وعقائد وحديث وتفسير، وكانت لع عناية خاصة بعلوم العربية، وقد خصَّص جزءً من وقته لمطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقد حفظ بعض مؤلفاتهما، كما أنه تميز بعنايته الخاصة بكتب المذهب الحنبلي كـ (المنتهى) و(الإقناع) و(المغني).
وقد عمل مدرساً بمعهد عنيزة العلمي، حتى تقاعد وتفرغ للعلم والتعليم، وكان ابن سعدي إذا غاب عن عنيزة، أنابه في إمامة الجامع الكبير والخطابة فيه، وقد صدر له مؤلف في الخطب استفاد منه الخطباء والدعاة.

45_ محمد بن ناصر الحناكي:
ولد في مدينة الرس عام 1293هـ، وتربى على يد أبيه تربية حسنة، وقرأ القرآن في الرس حتى حفظه، وتعلم مبادئ الكتابة والحساب، ثم شرع في طلب العلم، وكان من أبرز مشايخه الشيخ ابن سعدي، حيث قرأ عليه في أصول الدين والفروع والحديث والتفسير، ثم رحل إلى الرياض، ولازم علماءها، ثم رجع إلى القصيم، واستزاد في طلب العلم.
وقد ولي قضاء الرس، ثم قضاء الشبيكية، ثم قضاء القويعية، وقد حصلت له عقبات في حياته، حيث وشى فيه بعض أترابه، ولكنه صبر واحتسب، وعَّوض ذلك في طلب العلم والتعليم، وقد أحيل على التقاعد عام 1375هـ، ومع أعماله القضائية كان يتولى إمامة الجوامع والخطابة فيها في جميع المدن التي عمل فيها.

46_ يوسف بن عبد العزيز بن عبد الله الشبل وابنه عبد الله:
ولد الشيخ يوسف في محرم من عام 1309هـ، وكان يتدارس مع ابن سعدي القرآن بعد صلاة الفجر، كل يوم جزءان، فإذا طلعت الشمس؛ يتذاكروا في أمور فقهية، وبحثوا أي مسالة واجهتهم، ولعل تقارب السن بينه وبين الشيخ السعدي جعله يحظى بوقت ليس باليسير من وقت الشيخ رحمه الله.
للشيخ يوسف حاشية على (الروض) هي خلاصة مدارسته الفقهية مع الشيخ السعدي، وفي رمضان من كل عام كانوا يتدارسون القرآن في الليل؛ كل ليلة ثلاثة أجزاء، ويحضر معهم هذه المدارسة مجموعة من طلاب العلم؛ منهم: سليمان العلي الزامل، وصالح اليحي السليم، ومحمد بن عبد العزيز المطوع، والأخير يحضر معهم يومي الثلاثاء والجمعة صباحاً لمدارسة القرآن.
وقد توفي الشيخ يوسف عام 1373هـ، رحمه الله رحمة واسعة.

47_ الدكتور عبد الله بن يوسف الشبل:
وممَّن درس على الشيخ السعدي الدكتور عبد الله بن يوسف الشبل، وذلك بين عامي 1367هـ و1368هـ، وكان ميلاد الدكتور عبد الله عام 1355هـ، وقد التحق بالمعهد العلمي بعنيزة، وتخرج فيه، وكذا المعهد العلمي السعودي بعنيزة، ثم التحق بكلية الآداب قسم التاريخ في جامعة الملك سعود، وبعدها حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة الإسكندرية، ثم عمل أستاذاً في كلية العلوم الاجتماعية، ثم أميناً للجامعة، فوكيلاً لها، ولا يزال يعمل وكيلاً لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وقت تسجيل هذه المعلومات.
أخذ إجازة في (صحيح البخاري) من إبراهيم الغدير، وقد أخذ إبراهيم من علي بن ناصر أبو وادي، وكان قد أخذها نذير حسين الدهلوي من أئمة أهل الحديث.

هؤلاء هم بعض تلاميذ الشيخ السعدي، وقد ذكرهم وزاد عليهم الشيخ محمد القاضي في (روضة الناظرين)، فقال: (. . والتف إلى حلقاته طلبة كثيرون؛ من أبرزهم: سليمان إبراهيم البسام، وعبد الله بن عبد العزيز بن عقيل، ومحمد العبد العزيز المطوع، وعبد العزيز السبيل، وسليمان الصالح الخزيم، وعبد الرحمن المحمد المقوشي، ومحمد الصالح العثيمين، وعلي المحمد الزامل، ومحمد المنصور الزامل، وعبد الله المنصور الزامل، وحمد المحمد البسام، وعبد الله الحسن البريكان، وحمد الصغير، وعبد الله المحمد العوهلي،

ومحرر هذه الأحرف محمد العثمان القاضي، وإبراهيم الغرير، وعبد الله العبد العزيز الخضيري، وعبد العزيز المحمد السليمان، ومحمد السليمان البسام، وحمد إبراهيم القاضي، وعبدالله المحمد الفهيد، وسليمان الصالح البسام، وعبدالله العبد الرحمن المحمد البسام، وعبد الله العبد الرحمن الصالح البسام، وعبد الله المحمد الصيخان، وعبد الرحمن العبد العزيز الزامل، وعبد العزيز المحمد البسام، وعبدالله العبد العزيز الشبيلي، وعبد العزيز العلي المساعد، وسليمان العبد الرحمن الدامغ، وابنه عبد الله بن عبد الرحمن السعدي، وعبد الله المحمد المطرودي، وسليمان السليمان، وابنه عبد الله السلمان، ويوسف الخرب، وعلي الحمد الصالحي، وإبراهيم المحمد العمودي، ومحمد الناصر الحناكي، ومحمد العبد الرحمن العبدلي، وعبد المحسن السلمان، وسليمان المحمد الشبل، وحمد المحمد المرزوقي، وصالح الزغيبي، وعبد الرحمن المحمد السماعيل، ومحمد بن عبد الرحمن الحنطي، وأخوه عبدالله الخويطر، وعبد الله العمر العمري، وعبد العزيز إبراهيم الغرير، وعبد العزيز وعبد الله العلي النعيم في آخرين لا يحصرهم العد. . )([98]).


المبحث السادس عشر
نظمه وشعره
برع في النظم والشعر منذ صغره، فكانت له مساجلات وقصائد في أغراض شرعية، حيث نظم الكثير من الفقه، وفي القواعد الفقهية، وفي الترغيب والترهيب، وفي شرح بعض الأحاديث، وفي الثناء على بعض العلماء والأعلام، وفي بعض الأغراض الاجتماعية والأمور الحادثة، وإليك أمثلة من نظمه وشعره:
* نظم معنى الحديث: (مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل غيث أصاب أرضاً. . )، فقال:

قَدْ طالَ شَوقي إِلى الأحْباب والفكرُ *** وقَدْ عَراني لذاك السهْمُ والسَّهرُ
انَهضْ إلى العِلم في جسدٍ بِلا كسَل *** نُهوض عبدٍ إلى الخيراتِ يبتدرُ
واصـبرْ عِـلى نيـلِهِ صَبر الـمُجـدِّ لـهُ *** فلـيسَ يَدركُهُ من ليـس يَصـطـبرُ
فكـمْ نُصـوصٍ أَتَت تثني وتـمْدَحُــهُ *** للطالبيـنَ بِهـا مَـعنى ومُعــتَـبرُ
وفي الحَديثِ أنْ يُردْ ربُّ الورى كَرما *** بِعَبدهِ الخير والمخلوقُ مـفْـتـقِرُ
أَعْطـاهُ فـقْهاً بـديـنِ الـلـهِ يَحـملـُهُ *** يا حَـبَّذا نعـمـاً تأتي وتنـتـظِـرُ
أما سَـمِـعـتَ مثـالاً يُـسـتـضـاءُ بـهِ *** ويَستَفِزُّ ذَوي الألباب إِن نَظَـرُوا
بـأن عـِلم الهُـدى كالـغـيـثِ يُنـزلـهُ *** على القُلوب فمنها الصفوُ والكدر
أمَّا الرياضُ التي طابت فَقَدْ حسُـنَتْ *** مِنهـا الـرُّبـى بنباتِ كُـلُّهُ نـضـرُ
وبَـعْـضُهـا سـبحُ ليـستْ بـقـابـلـةٍ *** إِنْبـاتَ عُـشـبٍ بهِ نفـعُ ولاضَــرَرُ

.... إلخ القصيدة.
* وقال رحمه الله يمدح شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومؤلفاتهما:

يا طالباً لعُلوم الشَّـرع مُجتـهداً *** يَبغي انكشافَ الحَقِّ والعرفانِ
احرصْ عِلى كتب الإمامَيْنِ اللذيْنِ *** هُما المَـحَـكُّ لهـــذهِ الأزمــانِ
العالمَـينِ العَاملـيْنِ الحـافِظَـيـْنِ *** المُعْرضَينِ عَن الحُـطامِ الفَـاني
أَعْنِي بهِ شيـخَ الوَرى وإمامَهُمْ *** يُعْزى إلى تَيـمـيَّةَ الحَرَّانـــي
والآخـرَ المَــدْعُـوَّ بـابن القَــيَّمِ *** بَحر العُلوم العالمَ الرَّبَّانــي
فهُما اللَّذان قد أودعا في كُتْبهم *** غُررَ العُلـوم كَــثيرةَ الألـوانِ
فيها الفـوائدُ والمسائلُ جُمـعَـتْ *** مِن كُـل فاكِـهـةٍ بـها زَوجــانِ


* وقال يرثي ثلاثة من أصحابه ممَّن عاشوا معه ونهلوا من العلم وتدارسوه فتقاربت وفاة الثلاثة، فأوحشه الأمر، وعبَّر عن لوعته وحزنه بهذه القصيدة:

مَاتَ المُحب ومَاتَ الخِـلُّ يَـتـبـعهُ *** ومَـات ثالِـثهُـمْ والوَقـتُ مُـقْـتَربُ

مَاتُوا جَميعاً وما مَاتَتْ فضائِلهُم *** بـل كان فَضلُهُمُ للـنَّاس يُـكـتـسبُ

كــانوا نُجومً دَياجٍ يٍُتَضاء بِهِــم *** لهفي عَلى فقدهمْ مِنْ بَعْدِ ما ذَهَبوا



* وقال أول ما ركب السيارة مسافراً إلى الحج:

ياراحلينَ إلى الحِـمـىَ بـرواحِـلٍ *** تَطوي الفَلا والبيدَ طَيَّ المُسْرعِ
ليسَـتْ تَبولُ ولا تـروثُ ومـالَـهـا *** رُوحُ تَحِنُّ إلى الرَّبيع المُـمْـرعِ
ما استولدَتْ مِنْ نُوقنا بَل صُنْـعُها *** مِن بَعضِ تَعْليمِ اللَّطيفِ المُبدعِ
كَم أَوصلت دَارَ الحَبيبِ وكَمْ سَرتْ *** بِحمولِها نَـحوَ الدَّيار الشــمع




* ونظم بعض الأبيات في القواعد الفقهية، قال فيها:

فاحرصْ عَلـى فَهـمِكَ للـقَواعـدِ *** جَــــامـــعَــةِ المسائــلِ الشَّــواردِ
فَتَرتقي في العلمِ خَيْرَ مُرتقي *** وتقتفـي سُبُـلَ الـذي قَدْ حَصَّــلتُـها
وهــذهِ قـواعـــدُ نَــظـمـتُــهــا *** من كُتب أَهل العِلم قد حَصَّلتُها لتُها
جَزاهـمُ المِولــى عَظيــمَ الأجـــرِ *** والعــفــو مـع غُــفــرانِهِ والبــرَّ


* كما نظم بعض الأحكام الفقهية في رسالة خاصة، ومنها:

وهذه منظومةُ قَــصــدي بِهـا *** تيسيِرَ أَحكـام قَـدِ اعتَنَوا بهـا
في فقهِ أحكام تُفيدُ المُبتدي *** مِن كُتب أصحاب الإمام أحـمـدِ
أَرجُو مِنَ الرَّحمنِ تتميماً لَـهـا *** في اللفظ والمعنى خَلاصاً لها


. . . إلخ المنظومة.


* وله منظومة في السير إلى الله والدار الآخرة؛ قال فيها:

سَعدَ الذيـنَ تَجَنَّبـوا سُبُـلَ الـرَّدى *** وتَيَمَّمُوا لِمنازلِ الرُّضـوانِ
فهُمُ الَّذين قَدَ اخلصوا في مشيهم *** مُتشرعين بشِرعةِ الإيمـانِ
وهُــمُ الَّذين بنوا مـنازِلَ سـيرِهِـمْ *** بينَ الرَّجا والخَوفِ للدَّيانِ


. . إلخ المنظومة([99]).


المبحث السابع عشر
مرضه ووفاته
أصيب الشيخ عبدالرحمن بن سعدي في آخر حياته بمرض ضغط الدم، وهو مرض خطير، من أكثر أسبابه الإجهاد والتعب، وقد ضرب ابن سعدي في ذلك سهماً وافراً، حيث كان كثير التفكير وإجهاد النفس في المسائل المعضلة والمشكلات المعقدة والقضايا المتعددة؛ يفكر في هذه المسألة، ويكتب جواب تلك، ويبحث عن دليل ثالثة، ويناقش مع تلاميذه جوانب رابعة. . . وهكذا لا يهدأ له بال، ولا يرتاح له خاطر، بل حياته كلها حياة تعلُّم وتعليم.
ومن كانت هذه حاله في اهتمامه بأمور المسلمين وانصرافه عن الاهتمام بحاله وصحته؛ لابد أن ينتابه ما ينتاب غيره، ولكن همم الرجال على قدر عقولهم.
ولذا أصيب الشيخ قبل وفاته بخمس سنوات بمرض ضغط الدم، وكان لا بد لعلاجه من السفر خارج عنيزة، فاهتمَّ الملك سعود رحمه الله بأمره، وأرسل له طائرة خاصة نقلته إلى بيروت، فعولج بها، وبقي هناك قرابة الشهرين حتى شفاه الله، وذلك عام 1372هـ.
وبعد رجوعه إلى بلد عنيزة، عاود التدريس والإفتاء والتعليم والإمامة والخطابة، وزاول نشاطه العلمي السابق تماماً، رغم نهي الأطباء له عن الإجهاد، وتأكيدهم عليه أن يعطي جسمه قسطاً من الراحة، ولذا أخذ مرض ضغط الدم يعاوده بين الحين والآخر.
وفي سنة 1376هـ عاوده المرض، لكنه أحس بالثقل، واستمر معه فترة وجيزة، وفي ليلة الأربعاء 22/6/1376هـ بعد أن صلى العشاء في الجامع الكبير في عنيزة، وبعد أن أملى الدرس المعتاد على جماعة المسجد، أحسَّ بثقل وضعف حركة، فأشار إلى أحد تلاميذه بأن يمسك بيده ويذهب به إلى بيته، ففعل، لكنه أغمي عليه حال وصوله البيت، ثم أفاق وحمد الله وأثنى عليه وتكلم مع أهله ومن حضرهم بكلام حسن طيب به قلوبهم، وقال لهم: إني طيب؛ فلا تنزعجوا من أحلي. ثم سكت، وعاد إليه الإغماء، فلم يتكلم بعدها حتى توفاه الله.
وفي صباح الأربعاء 22/6/1376هـ دعوا الطبيب، فقرَّر أنه أصيب بنزيف في المخ، وأشعرهم أنه على خطر، وحثهم على تدارك الأمر وفعل الأسباب، فأبرقوا لسمو ولي العهد آنذاك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، فأصدر أمره بإسعافه بكل ما يلزم، فأقلعت طائرة خاصة من مطار الرياض إلى مطار عنيزة، وعلى متن الطائرة طبيب خاص بالمخ لإسعافه بما يحتاجه، لكن قدر الله نافذ، ولا رادَّ لقضائه سبحانه.
ولكِن إذا تم المَدى نَفذ القَضَا * * * وما لامرئٍ عَمَّا قضى اللهُ مَهْرَبُ
فلما وصلت الطائرة مطار عنيزة، حال دون نزولها السحاب الكثيف والأمطار الغزيرة التي لم تشهدها بلدان نجد من قبل، حيث استمرت الأمطار ما يزيد على أربعين يوماً، لم ير الناس فيها الشمس، ولذا لم تستطع النزول في مطار عنيزة، فرجعت من حيث أتت، ثم عادت الطائرة صباح الخميس لعلها تتمكن من الهبوط، لكنها تلقت المكالمة وهي في الجو بنبأ وفاته، فرجعت إلى الرياض.
كانت وفاته قبيل الفجر الخميس الموافق 23/6/1376هـ عن تسع وستين ستة قضاها في العلم والتعليم والتوجيه والتدريس والإمامة والخطابة والتأليف والإفتاء.
وقد أخرت الصلاة عليه إلى صلاة الظهر، لعل أحد أبنائه يدركه، فلم يتمكن منهم أحد؛ نظراً لبعد المسافة، ووجود الأجواء غير الطبيعية من الأمطار والسيول.
وقد صلى عليه خليفته عبد العزيز البسام في الجامع الكبير في حشد كبير لم تشهد له عنيزة مثيلاً من قبل، حيث اجتمع أهلها ومن جاورها من القرى والهجر والبوادي ومن علم بخبر وفاته، وشيع جثمانه إلى مقابر الشهوانية شمال عنيزة، ودفن هناك، وصلي عليه في مناطق كثيرة صلاة الغائب.
وقد تركت وفاته فراغاً كبيراً، حيث كان المعلم والمرشد والمفتي والموجه والناصح والمشير، يستفيد منه الصغير والكبير، والرجال والنساء.
كانت له صدقات جارية على أسر فقيرة، لم يعلم عنها إلا بعد وفاته، ولقد دخلت أحاديثه كل بيت، فقلَّ أن يوجد بيت في عنيزة إلا ولابن سعيد آثار عليه من قريب أو بعيد، ولا يزال ذكره على الألسن ومحبته في القلوب وأحاديثه وإرشاداته وفتاويه هي حديث المجالس وأنس المحافل، وصدق الشاعر:
فَلَو كانَ يُفدَى بالنفوسِ وما غَلا * * * لَطِبنا نُفوساً بالَّذي كَانَ يَطْلِبُ([100])


المبحث الثامن عشر
ثناء العلماء عليه
كان ابن سعدي رحمه الله لا يحب الثناء من الآخرين عليه، ولذا كان ثناء طلابه ومحبيه عليه بعد وفاته، وذلك لما عرفوه من كريم خصاله وجميل فهاله وعظيم سجاياه، وحق لرجل جمع بين العلم والورع والزهد والصدق والإخلاص والحرص على نفع الناس أن يثني عليه العلماء والفضلاء.

ولست هنا بصدد حصر من أثنوا عليه وذكروه ببعض ما يستحق، لكنني أذكر طرفاً من أقوالهم؛ ليستدل بها على الباقي.

1_ سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز:
قال: (. . . كان رحمه الله كثير الفقه والعناية بمعرفة الراجح من المسائل الخلافية بالدليل، وكان عظيم العناية بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم، وكان يرجح ما قام عليه الدليل، وكان قليل الكلام؛ إلا فيما تترتب عليه فائدة، جالسته غير مرة في مكة والرياض، وكان كلامه قليلاً إلا في مسائل العلم، وكان متواضعاً، حسن الخلق، ومن قرأ كتبه؛ عرف فضله وعلمه وعنايته بالدليل، فرحمه الله رحمة واسعة).

2_ الشيخ عبد الرزاق عفيفي:
قال: (. . . فإن من قرأ مصنفاته ـ ابن سعدي ـ؛ وتتبع مؤلفاته، وخالط وسبر حاله أيام حياته، عرف منه الدأب في خدمة العلم اطلاعاً وتعليماً، ووقف منه على حسن السيرة، وسماحة الخلق، واستقامة الحال، وإنصاف إخوانه وطلابه من نفسه، وطلب السلامة فيما يجر إلى شر أو يفضي إلى نزاع أو شقاق، فرحمه الله رحمة واسعة. . ).

3_ الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
قال: (. . إن الرجل قلَّ أن يوجد مثله في عصره في عبادته وعلمه وأخلاقه، حيث كان يعامل كلاًّ من الصغير والكبير بحسب ما يليق بحاله، ويتفقد الفقراء، فيوصل إليهم ما يسدُّ حاجتهم بنفسه، وكان صبوراً على ما يلم به من أذى الناس، وكان يحب العذر ممَّن حصلت منه هفوة، حيث يوجهها توجيهاً يحصل به عذر من هفا. . ).

4_ الشيخ محمد حامد الفقي:
قال: (. . لقد عرفت الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي من أكثر من عشرين سنة، فعرفت فيه العالم السلفي المدقق المحقق الذي يبحث عن الدليل الصادق، وينقب عن البرهان الوثيق، فيمشي وراءه لا يلوي على شيء. . ).
وقال: (. . عرفت فيه العالم السلفي، الذي فهم الإسلام الفهم الصادق، وعرف فيه دعوته القوية الصادقة إلى الأخذ بكل أسباب الحياة العزيزة القوية الكريمة النقية. . ).

5_ الشيخ عبد الله البسام:
قال: (. . والقصد أنه صار مرجع بلاده وعمدتهم في جميع أحوالهم وشؤونهم؛ فهو مدرس الطلاب، وواعظ العامة، وإمام الجامع، وخطيبه، ومفتي البلاد وكاتب الوثائق، ومحرر الأوقاف والوصايا، وعاقد الأنكحة، ومستشارهم في كل ما يهمهم. . ).

6ـ محمد القاضي:
قال: (... وكان واسع الاطلاع في فنون عديدة، ففي كل فن يخوض فيه تقول: هذا فنه المختص به، وهذه مؤلفاته بين أيدي القراء أكبر شاهد على ما ذكرته...).

7ـ الشيخ عبد الله العقيل:
قال: (. . كان رحمه الله على جانب كبير من مكارم الأخلاق والتواضع، وكان يحترم جلساءه ويوقرهم، وكان كثير التسامح مع أصحابه وغيرهم، ويلتمس العذر لأحدهم مهما كان، وكان يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، ويجيب دعوة من دعاه، يتكلم مع كل أحد بما يناسب حاله، ويحرص على نشر العلم بينهم في مجالسهم، وكان حريصاً على نصح الناس من خلال خطبه المنبرية ومجالس العلمية، حريصاً على إفتائهم وحل مشاكلهم الدينية والدنيوية، فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء. . ).

8_ الشيخ عبد الرحمن العدوي:
قال: (. . لقد كان الشيخ عبد الرحمن السعدي من الناحية الدينية هو كل شيء في عنيزة؛ فقد كان العالم والمعلم والإمام والخطيب والمفتي والواعظ والقاضي وصاحب مدرسة دينية له فيها تلاميذ منتظمون. . ).

9_ الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عثيمين:
قال: (. . لقد كان الفقيد رحمه الله على جانب كبير من الأخلاق الحسنة، متواضعاً للصغير والكبير، ذا عبادة وزهد وورع، وكان فقيهاً محدثاً واعظاً خطيباً لغوياً أديباً جامعاً لفنون عديدة. . ).

10_ الشيخ عبد الرحمن الفوزان:
قال: (. . أما إفادته العلمية، فيكفيك أنه قد جلس للتدريس والإفتاء وهو في عقده الثالث، حتى تخرج على يديه الكثير من القضاة والمدرسين، ولست بحاجة إلى شاهد؛ فمؤلفاته المنتشرة في جميع الآفاق أكبر دليل على اتساع مداركه وامتداد معارفه، إذ إنها لا تبحث في موضوع واحد وحسب، بل متعددة النواحي، مختلفة الأهداف. . ).

11_ الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن زامل آل سليم:
قال:
دَع عَنْكَ ذِكرَ الهوى واذْكُر أخا ثقةٍ *** يِدعو إلى العِلمِ لَم يَقعُد بهِ الضَّجَرُ
شِمْـسُ العُلوم ومَـن بالفَـضْلِ مُتَّـصفٌ *** مِفتاحُ خَيرٍ إلى الطَّاعاتِ مـُبتـكرُ
بَحــرُ مِنَ العِلمِ نَالَ العِلمَ في ضغـرٍ *** مَعَ التُّقى حيثُ ذاك الفَوزُ والظفرُ
نَـالَ العُـلا يافـعاً تَعـلو مـَراتِـبهـُبهُ *** ففَـضْـلُهُ عِنْد كُلَّ النَّاس مُـشتَـهـرُ
بالفقهِ في الدَّينِ نالَ الخَيْرَ أجمَـعَهُ *** والفقهُ في الدينِ غُصْنٌ كُـلُّهُ ثَمَـرُ

وهي قصيدة طويلة، اقتصرنا منها على هذه الأبيات([101]).


المبحث التاسع عشر
رثاؤه
لقد كانت وفاة علامة القصيم عبد الرحمن السعدي خسارة كبيرة، لا لأهل بلده فحسب، ولكن للعالم الإسلامي الذي فقد واحداً من ألمع علمائه وأصدق دعاته، الذين نذروا أنفسهم لخدمة دينهم، وكرَّسوا حياتهم العلمية والعملية لنفع الناس، وقضاء حوائجهم، وغرس الفضائل، ونبذ الرذائل، ولذا بكاه الكثيرون، ورثاه آخرون، وكتب عنه علماء وأدباء، وسطروا شيئاً من صلتهم به ومعرفتهم له بالنثر والشعر:

وأقتصر هنا على قصيدتين لشاعرين كبيرين:

الأولى: للشاعر صالح بن عبد العزيز بن عثيمين؛ قال فيها:

رُزءٌ عظـيمُ أثـارَ الـحُـزْنَ والأسَـفا *** فالدمْعُ فيهِ عَلى الخَدَّينِ قَد ذَرَفا
اليومَ حَـقـاً فـقـدنْا للهُـدىَ عَـلَماً *** اليومَ حَقّاً فقدْنا الزُّهْدَ والشَّــرَفا
بقيتْ عُنـيزَةُ دَهْـراً وهـي رافِـعةُ *** لِواءَ فَخـرٍ لهُ كُلُّ الـوَرى عَــرَفـا
ظَلتْ بِهِ العُربُ دَهراً وهي فـاخِرةُ *** واليومَ أضْحَتْ تُعزَّى فيه وا أسفا
فَـذي تَصانيفُهُ قـَدْ قـامَ قائِـمـُها *** يدعو العِبادَ عليها الكلُّ قَدْ عَكَفا
لهفي بذا العام قَدْ حَق العَزاءُ لنا *** في فلدحٍ لو أصابَ الطَّودَ لارتَجَفا
مَات الذي إن يَخُض في النَّحْوِ لُجَّتُهُ *** قالَ ابنُ مَالكٍ مَاأبدَيتهُ طَرفـــــا
فاللهُ يُلهـمـُنا صَبـراً فَـقَـد عَظُـمـَت *** مُصيبة أثَقَلتْ في حَمْلِها الكــتفا


والثانية: للشاعر الدكتور عبد الله بن صالح العثيمين، ومنها:

مُـهـج تـذوبُ وأنـفـسُ تَـتَـحَسَّـرُ *** ولظىً على شَغَفِ القُلوبِ تَسَعَّرُ
الحُزنُ أُضرِمَ في الجَوانحِ والأسى *** يُصلي المشاعِرَ بالجَحيم ويصهَرُ
مـَلأ الـضَّـمــائـر حَـسـرَةٍ وكَـآبـةً *** لا شيءَ يُبْرِئُـهـا ولا هـيَ تُجْـبَرُ
الــيــومَ وداعـنـا أَبـاً ومُـهـَذِّبـاً *** والحُزنُ يَغلي في الدماءِ ويَزخرُ
كُتب الفَناءُ على النُّـفوسِ فما يُرى *** حَـيٌ يَـدومُ مُـخـلـــداً ويـُعَـمَّـــرُ
لـكـِنْ مـَنِ اتَّـخذَ الصَّــلاحَ شِعـارهُ *** تَفْنى الخليفةُ وهو حَيُّ يُــذكــرُ
مَا ماتَ مَنْ نَشَرَ الفَضـيلةَ والتُّـقى *** وأقـامَ صَـرْحــاً أُسـُّهُ لا يُـكْــسَرُ
ماذا أقولُ عَنِ المُصابِ ومُهجـتي *** ألماً تَغُصُّ وعبرتَي تتكسرُ


المصدر

__________________


لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين
اللحالي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء : 0 , والزوار : 1 )
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة




الساعة الآن 06:15 AM