ومن خصائص القهوة عدم ملء الفنجال بل يجب أن يكون أقل من النصف في الفنجال المتوسط وإلا أصبح ذلك استخفافاً بمن تساق إليه , وسبب ذلك يعود في العصور القديمة نظرا لقلة القهوة وكثرة رجال المجلس وحجم الفناجيل الكبير نسبياً فاتّبعوا عدم ملء الفنجال من أجل أن تصل إلى كل واحد في المجلس واستمر الحال هكذا حتى أصبح عرف لا يمكن الحياد عنه وإلا فما أكرمت ضيفك.
وفي ذلك إشارة لطيفة يمكن فهمها أن القهوة للقدر وليس لملء المعدة ثم أن للقهوة رديفين لا ينفكان عنها في غالب الأحيان , فالأول هو التمر الذي إذا امتزجت حلاوته بمرارة القهوة أعطت مذاقاً خاصاً ونكهة مستساغة , أما الثاني فهو العود (البخور) الذي يضفي على مجلس القهوة بهاءاً وجواً فواحاً إذا اختلط برائحة البن والهيل والزعفران.
ويساق الفنجال الأول للضيف الذي أعدت القهوة لأجله ما لم يكن والد المضيف بالمجلس، وإذا تساوت مقامات الناس بالمجلس فإن سائق القهوة يبدأ من اليمين ما لم يكن هناك تنازل وإيثار وهذا يحدث كثيراً, وللقهوة أوقات متميزة يتم إعدادها فيها ما لم يكن هناك داعي مثل قدوم ضيف مفاجئ , فالأوقات المفضلة هي قبل أو بعد صلاة الفجر أو وقت الظهيرة أو بعد صلاة المغرب. غير أن عويض بن علاج يفضل إعدادها بعد صلاة الفجر حيث يقول:
وتدخل القهوة في مجال التحدي بين الخصوم في الزمن الماضي ومثال ذلك أنه إذا أراد قوم أن يغزوا قوماً آخرين وهم يعلمون أن أمامهم فارس شجاع مشهور فإنهم يقومون بعقد مجلس حرب يتم فيه إعداد القهوة ثم يصب الفنجال الأول فيقال هذا فنجال الفارس فلان بن فلان من الذي يشرب فنجاله؟
فبعد أن يعم الصمت المجلس قليلاً يقوم أحد الشجعان فيقول أنا اشربه فيعطيه الفنجال فيشربه , وبهذه الحالة يكون قد ألزم نفسه بقتل ذلك الفارس المقابل وهذه أعلى درجات التحدي لديهم.
وللقهوة نقاد متميزون يعرفون إن كان قد خالط القهوة شيء من غير جنسها , مثل صنيتان بن راجح البدراني , فيرفض ارتشافها حتى يتم تنظيف آنيتها جميعاً وإعداد قهوة جديدة , وتدخل القهوة أيضاً في تصفية المزاج وتبديد الهموم ثم هي كذلك لا تساق في نظر المتعصبين لها إلى كل شخص كما قال أحدهم بتصرف:
إلى أن قال:
ومن خصائص القهوة أنه لا يليق بالإنسان أن يشربها وهو واقف أو يمشي وهو بحضرة مجلس عام وإلا كان ذلك إسقاط للمروءة عند البعض من النقاد،وفي السنوات الأخيرة ظهرت طرق جديدة لإذابة هوية القهوة وإلغائها بالنهاية مثل قهوة النوى والشعير والخلطات الأخرى بدعوى صحية واقتصادية عند أصحاب هذه الفكرة , لكنها لم تفلح ولم يكتب لها النجاح لان القهوة محاطة بسياج منيع يحصنها من التبديل والتغيير وذلك لأهميتها الفائقة بين جميع طبقات المجتمع السعودي , فهي أول ما يقدم لكبار الضيوف العالميين على المستوى الرسمي لذلك لا تجد بيتاً سعودياً يخلو إذا وجد به قوت اليوم والليلة.
ومن المحاولات الجديدة لطمس هوية آنية القهوة هي استعمال الترمس الذي حل محل الدلة وإن كان على نطاق ضيق وفي حالات معينة كالمسافر والمرضى في المستشفيات وغيرها , ولكن الدلة تبقى صاحبة الشرف الأول مهما كثرة المنافسة. أما النجر والمحماس على وجه التحديد فهما في وضع يستدعي الشفقة حيث هجمت عليهما الآلة الحديثة فأخفت صوت النجر الذي له شأن عظيم في اجتماع أهل الحي إذا سمعوا صوته المميز وقد أنكر بعض (الإخوان) على من يدن النجر من أجل الحضور للقهوة فقال أحد الشعراء:
ولا يجيد كل شخص دنة النجر المميزة لأنها تتطلب إيقاعات خاصة وليست مجرد تحريك يد النجر بداخله , ولم تشفع كل هذه الأمور للنجر في البقاء مع أخته الدلة ولكنه أحيل للتقاعد الأبدي مع بقية المعاميل التي انتهى مجدها وأصبحت من بقايا الأمس البعيد على رفوف حفظ التراث أن هي وجدت , حتى وأن كانت استنساخ مشوه.
وأخيراً أيها الإخوة الكرام والأبناء الغالين جداً هذه لمحات سريعة عن خصائص القهوة وليست تغطية كاملة إذ لو أردنا ذلك لطال بنا المقام , خصوصاً ما قاله الشعراء فيها وكذلك مواقف النقاد عبر تاريخ القهوة الذي مضى عليه أكثر من تسعمائة وستون عاماً تقريباً حسب ما تقوله بعض مصادر التاريخ.
منقوول