اللحالي
03-15-2015, 12:42 AM
http://www.lovely0smile.com/2011/Sahaba/Sahaba-35.jpg (http://www.lovely0smile.com/Msg-6141.html)
* هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبلغُ مشارفَ يثربَ - الأماكن المطلة على يثرب -، بعد طولِ لهفةٍ وترقبٍ...
وها هم أولاء أهلُ المدينةِ الطيبةِ، يَتزاحَمون في الدّروب وفوق سُطوح البُيوت، مُهللين - قائلين: لا إله إلا الله - مكبِّرين فرحاً بلقاءِ نبيِّ الرحمةِ وصاحبه الصدِّيق...
وهاهُنّ صبايا المدينة الصغيرات يخرُجن وفي أيديهنَّ الدفوفُ، وفي عيونهن الشوقُ مُزغرداتٍ مُردداتٍ:
أقبـَل البدرُ علينا من ثنياتِ الوداعْ
وجبَ الشكرُ علينا ما دعا لله داع
وهذا موكبُ الرسول الكريم يَتهادى - يمشي بتؤدة - بين الصُفوف، تحُفه المُهجُ المُشتاقة، وتحُوطه الأفئدة التواقة، وتنثرُ حَواليه دُمُوع الفــرحِ، وبسمات السرورِ.
* * *
- لكنَّ عُقبة بـن عامرٍ الجُهني لم يَشهد موكبَ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
ولم يَسعد باستقبالِه مع المُستقبلين.
ذلك، لأنه كان قد خَرجَ إلى البوادِي بغنيماتٍ له، ليرعاها هناك، بعد أن اشتدَّ عليها السغبُ - الجوع - وخاف عليها الهلاك، وهي كل ما يَملك من حُطام الدنيا - مالها الفاني -.
لكن الفرحَة التي غمرتِ المدينة المُنورة ما لبِثت أن عَمتْ بواديها القريبة والبعيدَة وأشرَقت في كل بُقعةٍ من بقاعها الطيبة، وبَلغت تباشيرُها عُقبة بن عامرٍ الجُهني، وهو مع غنيماته بعيداً في الفلواتِ.
فلنترُك الكلامَ لعقبة بن عامرٍ ليرويَ لنا قصة لقائهِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عقبة: قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا في غنيمة لي أرعاها، فما إن تناهى إليَّ - بلغني - خبرُ قدومه حتى تركتها ومضيتُ إليه لا ألوي على شيء - لا أقف عند شيء ولا أنتظر -، فلما لقيته قلت: تبايعني يا رسول الله؟ قال:( فمن أنت ) قلت: عقبة بن عامرٍ الجهني، قال:( أيما أحبُّ إليك: تبايعني بيعة أعرابية أو بيعة هجرةٍ؟ ) قلت: بل بيعة هجرةٍ، فبايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايعَ المهاجرين، وأقمتُ معه ليلةً ثم مضيتُ إلى غنمي.
* * *
- وكنا اثني عشرَ رجلاً ممن أسلموا نقيمُ بعيداً عن المدينة لنرعى أغنامَنا في بَواديها.
فقال بعضُنا لبعضٍ: لا خيرَ فينا إذا نحنُ لم نقدمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعدَ يومٍ، ليفقهنا في ديننا، ويُسمعنا ما ينزل عليه من وحي السماء، فليمضِ كل يومٍ واحدٌ منا إلى يثرِبَ وليترُك غنمه لنا فنرعاها له.
فقلت: اذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً بعد آخر وليَترُك لي الذاهبُ غنمه؛ لأني كنتُ شديد الإشفاق - شديد الخوف والمحاذرة - على غنيمتي من أن أتركها لأحد.
* * *
- ثم طفقَ أصحابي يَغدو - يذهب في الغداة، والغداة الصباح - الواحدُ منهم بعد الآخر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتـركُ لي غنمه أرعاها له، فإذا جاء، أخذتُ منهُ ما سمع، وتلقيت عنه ما فقه، لكنني ما لبثتُ أن رجعتُ إلى نفسي وقلتُ: ويحَك! أمِن أجل غنيماتٍ لا تسمن ولا تغني تفوتُ على نفسك صُحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخذ عنه مشافهةً من غيرِ واسطة؟! ثم تخليتُ عن غنيماتي، ومضيتُ إلى المدينة لأقيمَ في المسجد بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
- لم يَكن عُقبة بن عامرٍ الجهنيُ يخطرُ له على بالٍ - حين اتخذ هذا القرار الحاسمَ والحازم - أنه سيغدو بعدَ عقدٍ من الزمان عالماً من أكابر علماء الصحابة، وقارئاً من شيوخ القراءِ وقائداً من قواد الفتحِ المرموقين، ووالياً من ولاة الإسلام المَعدودين، ولم يكن يَتخيلُ - مُجرد تخيلٍ - وهو يتخلى عن غنيماته، ويمضي إلى الله ورسوله أنه سيكون طليعة الجيش الذي يَفتح أمَّ الدنيا دمشق، ويتخذ لنفسه داراً بين رياضها النضرة عند " باب توما " - أحد أبواب دمشق القديمة -.
ولم يكن يتصور أنه سيكون أحدَ القادة الذين سَيفتحون زمرُّدة الكونِ الخضراءَ مِصرَ، وأنه سيغدو والياً عليها، ويختط لِنفسه داراً في سفحِ جبلها " المقطم " ؛ فتلك كلها أمورٌ مُستكنة - محتجبة ومختبئة - في ضمير الغيب، لا يعلمها إلا الله.
* * *
- لزمَ عقبة بـن عامرٍ الجهني رسول الله صلى الله عليه وسلم لزومَ الظلِّ لصاحبِه، فكان يأخذ له بزمامِ بغلته أينما سارَ، ويمضي بين يديه أنى اتجَّه، وكثيراً ما أردفه - أركبه خلفه - رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه، حتى دُعي برديـفِ رسول الله، ورُبما نزلَ له النبيُّ الكريم عن بغلته ليكون هو الذي يَركب، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يمشي.
حَدّث عقبة قال: كنت آخذ بزمامِ بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غاب - أجماتها ذوات الأشجار الكثيفة الملتفة - المدينة، فقال لي:( يا عُقبة، ألا تركبُ؟! ) فهممتُ أن أقول: لا؛ لكني أشفقتُ أن يكون في معصية لرسول الله، فقلت: نعم يا نبي الله، فنزلَ الرسول عن بغلتِه وركبتُ أنا امتثالاً لأمرِه وجعل هو يمشي، ثم ما لبثتُ أن نزلتُ عنها، وركب النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال لي:( يا عُقبة ألا أعلمك سورتين لم يُرَ مثلهن قط؟! ) فقلت: بلى يا رسول الله، فأقرأني:﴿ قُل أَعوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ ﴾ و ﴿ قُلْ أعوذُ بِرَبِّ النَّاس ﴾، ثم أقيمتِ الصلاة فتقدَّم وصلى بهما، وقال:( اقرأهما كلما نِمتَ وكلما قمتَ ).
قال عقبة : فما زِلتُ أقرؤهما ما امتدَّت بي الحياة.
* * *
- ولقد جعلَ عقبة بن عامرٍ الجُهني همَّه - اهتمامه وعنايته - في أمرين اثنين: العِلم والجهادِ وانصرفَ إليهما بروحه وجَسده، وبذلَ لهما من ذاته أسخى البذل، وأكرمه.
أما في مجال العلم فقد جعلَ يَعبُّ من مناهلِ رسول الله الثرة - الغزيرة - العذبةِ حتى غدا مُقرِئاً، مُحدثاً، فقيهاً، فرضياً - عالماً بالفرائض والمقصود بها هنا علم المواريث والتركات -، أديباً، فصيحاً، شاعراً.
وكان من أحسنِ الناسِ صوتاً بالقرآن، وكان إذا ما سَجى - هدأ وسكن - الليلُ وهدأ الكونُ انصرفَ إلى كتاب الله يَقرأ من آياته البينات، فتصغي لترتيله أفئدة الصحابة الكرم، وتخشع له قلوبهم وتفيضُ عيونهم بالدمعِ من خشية الله.
وقد دعاه عمرُ بنُ الخطاب يوماً فقال: اعرض عليَّ شيئاً من كتابِ الله يا عُقبة، فقال سمعاً يا أمير المؤمنين، ثم جعَل يقرأ له ما تيسر من آي الذكرِ الحكيمِ، وعمرُ يبكي حتى بللتْ دموعُه لِحيته.
وقد ترَك عقبة مُصحفاً مكتوباً بخط يده، وبقي مُصحفه هذا إلى عهدٍ غيـرِ بعيدٍ موجوداً في مصرَ في الجامعِ المعروف ِبجامعِ عقبة بـن عامرٍ وقد جاء في آخره " كتبه عقبة بن عامرٍ الجهني ".
ومُصحفُ عُقبة هذا من أقدمِ المصاحفِ التي وُجدت على ظهرِ الأرضِ لكنه فقدَ في جُملة ما فقد من تراثنا الثمين، ونحنُ عنهُ غافلون.
وأما في مجالِ الجهادِ فحسبُنا أن نعلمَ أن عقبة بن عامرٍ الجهنيَّ شهدَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحُداً وما بعدَها من المغازي، وأنه كان أحدَ الكماةِ الأشاوسِ المغاويرِ، الذين أبلوا يومَ فتحِ دمشق أعزَّ البلاء وأعظمه، فكافأه أبو عُبيدة بـنُ الجراح على حُسن بلائه بأن بَعثهُ بشيراً إلى عُمر بن الخطابِ في المدينة ليبشره بالفتح، فظلَّ ثمانية أيام بلياليها من الجُمعةِ إلى الجمعة يُغذ السير دون انقطاعٍ، حتى بَشـرَ الفاروق بالفتحِ العظيم.
ثم أنه كان أحدَ قادةِ جيوشِ المسلمين التي فتحت مِصر، فكافأهُ أميرُ المؤمنين مُعاوية بن أبي سفيان بأن جعله والياً عليها ثلاث سنين، ثم وَجههُ لغزوِ جَزيرة رودُس في البحرِ الأبيض المتوسط. وقد بَلغ من ولعِ عقبة بنِ عامرٍ الجهني بالجهاد، أنه وعَى أحاديث الجهاد في صدره، واختصَّ بروايتها للمسلمين، وأنه دأبَ على حذقِ الرِّماية حتى إنه إذا أراد أن يتلهى تلهَّى بالرَّمي.
* * *
- ولما مّرض عقبة بن عامرٍ الجهني مرضَ الموت - وهو في مصر - جَمعَ بنيه فأوصَاهم فقال: يا بني أنهاكم عن ثلاثٍ فاحتفظوا بهنّ: لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من ثقةٍ، ولا تستدينوا ولو لبستمُ العباءَ - كساء مفتوح من الأمام -، ولا تكتبوا شعراً فتشغلوا به قلوبكمْ عـن القرآن.
ولما أدركته الوفاة، دَفنوهُ في سفحِ المقطم - جبل مطل على القاهرة من جهة الجنوب قليل الارتفاع - ثم انقلبوا إلى تركته يُفتشونها، فإذا هو قد خلفَ بضعاً وسبعيـن قوساً، مع كل قوسٍ قرنٌ ونبالٌ، وقد أوصى بهنَّ أن يُجعلن في سبيل الله.
نضرَ الله وَجه القارئ العالمِ الغازي عقبة بن عامرٍ الجُهني، وجزاهُ عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء.
* هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبلغُ مشارفَ يثربَ - الأماكن المطلة على يثرب -، بعد طولِ لهفةٍ وترقبٍ...
وها هم أولاء أهلُ المدينةِ الطيبةِ، يَتزاحَمون في الدّروب وفوق سُطوح البُيوت، مُهللين - قائلين: لا إله إلا الله - مكبِّرين فرحاً بلقاءِ نبيِّ الرحمةِ وصاحبه الصدِّيق...
وهاهُنّ صبايا المدينة الصغيرات يخرُجن وفي أيديهنَّ الدفوفُ، وفي عيونهن الشوقُ مُزغرداتٍ مُردداتٍ:
أقبـَل البدرُ علينا من ثنياتِ الوداعْ
وجبَ الشكرُ علينا ما دعا لله داع
وهذا موكبُ الرسول الكريم يَتهادى - يمشي بتؤدة - بين الصُفوف، تحُفه المُهجُ المُشتاقة، وتحُوطه الأفئدة التواقة، وتنثرُ حَواليه دُمُوع الفــرحِ، وبسمات السرورِ.
* * *
- لكنَّ عُقبة بـن عامرٍ الجُهني لم يَشهد موكبَ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
ولم يَسعد باستقبالِه مع المُستقبلين.
ذلك، لأنه كان قد خَرجَ إلى البوادِي بغنيماتٍ له، ليرعاها هناك، بعد أن اشتدَّ عليها السغبُ - الجوع - وخاف عليها الهلاك، وهي كل ما يَملك من حُطام الدنيا - مالها الفاني -.
لكن الفرحَة التي غمرتِ المدينة المُنورة ما لبِثت أن عَمتْ بواديها القريبة والبعيدَة وأشرَقت في كل بُقعةٍ من بقاعها الطيبة، وبَلغت تباشيرُها عُقبة بن عامرٍ الجُهني، وهو مع غنيماته بعيداً في الفلواتِ.
فلنترُك الكلامَ لعقبة بن عامرٍ ليرويَ لنا قصة لقائهِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عقبة: قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا في غنيمة لي أرعاها، فما إن تناهى إليَّ - بلغني - خبرُ قدومه حتى تركتها ومضيتُ إليه لا ألوي على شيء - لا أقف عند شيء ولا أنتظر -، فلما لقيته قلت: تبايعني يا رسول الله؟ قال:( فمن أنت ) قلت: عقبة بن عامرٍ الجهني، قال:( أيما أحبُّ إليك: تبايعني بيعة أعرابية أو بيعة هجرةٍ؟ ) قلت: بل بيعة هجرةٍ، فبايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايعَ المهاجرين، وأقمتُ معه ليلةً ثم مضيتُ إلى غنمي.
* * *
- وكنا اثني عشرَ رجلاً ممن أسلموا نقيمُ بعيداً عن المدينة لنرعى أغنامَنا في بَواديها.
فقال بعضُنا لبعضٍ: لا خيرَ فينا إذا نحنُ لم نقدمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعدَ يومٍ، ليفقهنا في ديننا، ويُسمعنا ما ينزل عليه من وحي السماء، فليمضِ كل يومٍ واحدٌ منا إلى يثرِبَ وليترُك غنمه لنا فنرعاها له.
فقلت: اذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً بعد آخر وليَترُك لي الذاهبُ غنمه؛ لأني كنتُ شديد الإشفاق - شديد الخوف والمحاذرة - على غنيمتي من أن أتركها لأحد.
* * *
- ثم طفقَ أصحابي يَغدو - يذهب في الغداة، والغداة الصباح - الواحدُ منهم بعد الآخر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتـركُ لي غنمه أرعاها له، فإذا جاء، أخذتُ منهُ ما سمع، وتلقيت عنه ما فقه، لكنني ما لبثتُ أن رجعتُ إلى نفسي وقلتُ: ويحَك! أمِن أجل غنيماتٍ لا تسمن ولا تغني تفوتُ على نفسك صُحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخذ عنه مشافهةً من غيرِ واسطة؟! ثم تخليتُ عن غنيماتي، ومضيتُ إلى المدينة لأقيمَ في المسجد بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
- لم يَكن عُقبة بن عامرٍ الجهنيُ يخطرُ له على بالٍ - حين اتخذ هذا القرار الحاسمَ والحازم - أنه سيغدو بعدَ عقدٍ من الزمان عالماً من أكابر علماء الصحابة، وقارئاً من شيوخ القراءِ وقائداً من قواد الفتحِ المرموقين، ووالياً من ولاة الإسلام المَعدودين، ولم يكن يَتخيلُ - مُجرد تخيلٍ - وهو يتخلى عن غنيماته، ويمضي إلى الله ورسوله أنه سيكون طليعة الجيش الذي يَفتح أمَّ الدنيا دمشق، ويتخذ لنفسه داراً بين رياضها النضرة عند " باب توما " - أحد أبواب دمشق القديمة -.
ولم يكن يتصور أنه سيكون أحدَ القادة الذين سَيفتحون زمرُّدة الكونِ الخضراءَ مِصرَ، وأنه سيغدو والياً عليها، ويختط لِنفسه داراً في سفحِ جبلها " المقطم " ؛ فتلك كلها أمورٌ مُستكنة - محتجبة ومختبئة - في ضمير الغيب، لا يعلمها إلا الله.
* * *
- لزمَ عقبة بـن عامرٍ الجهني رسول الله صلى الله عليه وسلم لزومَ الظلِّ لصاحبِه، فكان يأخذ له بزمامِ بغلته أينما سارَ، ويمضي بين يديه أنى اتجَّه، وكثيراً ما أردفه - أركبه خلفه - رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه، حتى دُعي برديـفِ رسول الله، ورُبما نزلَ له النبيُّ الكريم عن بغلته ليكون هو الذي يَركب، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يمشي.
حَدّث عقبة قال: كنت آخذ بزمامِ بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غاب - أجماتها ذوات الأشجار الكثيفة الملتفة - المدينة، فقال لي:( يا عُقبة، ألا تركبُ؟! ) فهممتُ أن أقول: لا؛ لكني أشفقتُ أن يكون في معصية لرسول الله، فقلت: نعم يا نبي الله، فنزلَ الرسول عن بغلتِه وركبتُ أنا امتثالاً لأمرِه وجعل هو يمشي، ثم ما لبثتُ أن نزلتُ عنها، وركب النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال لي:( يا عُقبة ألا أعلمك سورتين لم يُرَ مثلهن قط؟! ) فقلت: بلى يا رسول الله، فأقرأني:﴿ قُل أَعوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ ﴾ و ﴿ قُلْ أعوذُ بِرَبِّ النَّاس ﴾، ثم أقيمتِ الصلاة فتقدَّم وصلى بهما، وقال:( اقرأهما كلما نِمتَ وكلما قمتَ ).
قال عقبة : فما زِلتُ أقرؤهما ما امتدَّت بي الحياة.
* * *
- ولقد جعلَ عقبة بن عامرٍ الجُهني همَّه - اهتمامه وعنايته - في أمرين اثنين: العِلم والجهادِ وانصرفَ إليهما بروحه وجَسده، وبذلَ لهما من ذاته أسخى البذل، وأكرمه.
أما في مجال العلم فقد جعلَ يَعبُّ من مناهلِ رسول الله الثرة - الغزيرة - العذبةِ حتى غدا مُقرِئاً، مُحدثاً، فقيهاً، فرضياً - عالماً بالفرائض والمقصود بها هنا علم المواريث والتركات -، أديباً، فصيحاً، شاعراً.
وكان من أحسنِ الناسِ صوتاً بالقرآن، وكان إذا ما سَجى - هدأ وسكن - الليلُ وهدأ الكونُ انصرفَ إلى كتاب الله يَقرأ من آياته البينات، فتصغي لترتيله أفئدة الصحابة الكرم، وتخشع له قلوبهم وتفيضُ عيونهم بالدمعِ من خشية الله.
وقد دعاه عمرُ بنُ الخطاب يوماً فقال: اعرض عليَّ شيئاً من كتابِ الله يا عُقبة، فقال سمعاً يا أمير المؤمنين، ثم جعَل يقرأ له ما تيسر من آي الذكرِ الحكيمِ، وعمرُ يبكي حتى بللتْ دموعُه لِحيته.
وقد ترَك عقبة مُصحفاً مكتوباً بخط يده، وبقي مُصحفه هذا إلى عهدٍ غيـرِ بعيدٍ موجوداً في مصرَ في الجامعِ المعروف ِبجامعِ عقبة بـن عامرٍ وقد جاء في آخره " كتبه عقبة بن عامرٍ الجهني ".
ومُصحفُ عُقبة هذا من أقدمِ المصاحفِ التي وُجدت على ظهرِ الأرضِ لكنه فقدَ في جُملة ما فقد من تراثنا الثمين، ونحنُ عنهُ غافلون.
وأما في مجالِ الجهادِ فحسبُنا أن نعلمَ أن عقبة بن عامرٍ الجهنيَّ شهدَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحُداً وما بعدَها من المغازي، وأنه كان أحدَ الكماةِ الأشاوسِ المغاويرِ، الذين أبلوا يومَ فتحِ دمشق أعزَّ البلاء وأعظمه، فكافأه أبو عُبيدة بـنُ الجراح على حُسن بلائه بأن بَعثهُ بشيراً إلى عُمر بن الخطابِ في المدينة ليبشره بالفتح، فظلَّ ثمانية أيام بلياليها من الجُمعةِ إلى الجمعة يُغذ السير دون انقطاعٍ، حتى بَشـرَ الفاروق بالفتحِ العظيم.
ثم أنه كان أحدَ قادةِ جيوشِ المسلمين التي فتحت مِصر، فكافأهُ أميرُ المؤمنين مُعاوية بن أبي سفيان بأن جعله والياً عليها ثلاث سنين، ثم وَجههُ لغزوِ جَزيرة رودُس في البحرِ الأبيض المتوسط. وقد بَلغ من ولعِ عقبة بنِ عامرٍ الجهني بالجهاد، أنه وعَى أحاديث الجهاد في صدره، واختصَّ بروايتها للمسلمين، وأنه دأبَ على حذقِ الرِّماية حتى إنه إذا أراد أن يتلهى تلهَّى بالرَّمي.
* * *
- ولما مّرض عقبة بن عامرٍ الجهني مرضَ الموت - وهو في مصر - جَمعَ بنيه فأوصَاهم فقال: يا بني أنهاكم عن ثلاثٍ فاحتفظوا بهنّ: لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من ثقةٍ، ولا تستدينوا ولو لبستمُ العباءَ - كساء مفتوح من الأمام -، ولا تكتبوا شعراً فتشغلوا به قلوبكمْ عـن القرآن.
ولما أدركته الوفاة، دَفنوهُ في سفحِ المقطم - جبل مطل على القاهرة من جهة الجنوب قليل الارتفاع - ثم انقلبوا إلى تركته يُفتشونها، فإذا هو قد خلفَ بضعاً وسبعيـن قوساً، مع كل قوسٍ قرنٌ ونبالٌ، وقد أوصى بهنَّ أن يُجعلن في سبيل الله.
نضرَ الله وَجه القارئ العالمِ الغازي عقبة بن عامرٍ الجُهني، وجزاهُ عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء.