اللحالي
02-13-2015, 11:49 PM
http://www.lovely0smile.com/2011/Sahaba/Sahaba-42.jpg (http://www.lovely0smile.com/Msg-7558.html)
* كان في بني عبدِ منافٍ - من أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبنوه هم العشيرة الأقربون للنبي الكريم- خمسة رجالٍ يُشبهون رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ الشبهِ حتى إنَّ ضِعافَ البصرِ كثيراً ما كانوا يخلطون بين النبيِّ وبينهم.
ولا ريبَ في أنك تودّ أن تعـرِف هؤلاء الخمسة الذي يُشبهون نبيّك عليه أفضلُ الصلاة وأزكى السَّلام.
فتعالَ نتعــرَّف عليهم.
إنهم: أبو سُفيان بنُ الحارثِ بـن عبد المُطلب وهو ابنُ عَم الرسول وأخوه من الرضاع.
وقثمُ بنُ العَباسِ بنِ عبدِ المطلب، وهو ابنُ عمِّ النبي أيضاً.
والسائِبُ بنُ عُبيد بن عبدِ يزيدَ بن هاشمٍ جدُ الإمام الشافعيِّ رضي الله عنه.
والحَسنُ بن عليّ سِبط - ابن ابنته، وحفيده:ابن ابنه - رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشدَّ الخمسةِ شبهاً بالنبي صلوات الله عليه.
وجَعفرُ بنُ أبي طالبٍ، وهو أخو أميرِ المؤمنين عليِّ بن أبي طالب.
فتعالَ نقصَّ عليك صوراً من حياة جعفرَ.
كان أبو طالب - على الرَّغم من سُمُوِّ شرفه في قريش، وعلوِّ منزلته في قومه - رقيق الحالِ كثيرَ العيالِ.
وقد ازدادت حاله سوءاً على سوءٍ بسببِ تلك السنةِ المُجدبةِ - التي انقطع مطرها - التي نزلتْ بقريشٍ فأهلكتِ الضَّرع - كناية عن الماشية -، وحَملتِ الناس على أن يأكلوا العِظام البالية.
ولم يكنْ في بني هاشمٍ - يومئذٍ - أيسرُ - أغنى - مِن محمد بنِ عبد الله، ومن عَمِّه العباسِ.
فقال محمدٌ للعباس: يا عمّ، إنَّ أخاك أبا طالب كثيرُ العيال، وقد أصابَ الناس ما ترى من شدةِ القحطِ - الجدب واحتباس المطر - ومَضضِ الجوع - ألمه -، فانطلق بنا إليه حتى نحمِل عنهُ بعضَ عياله؛ فآخذ أنا فتىً من بنيه، وتأخذ أنت فتىً آخر فنكفيهما عنه.
فقال العباسُ: لقد دَعوتَ إلى خيرٍ وحَضضت على برٍ.
ثم انطلقا حتى أتيا أبا طالبٍ، فقالا له: إنا نريدُ أن نُخفف عنك بعضَ ما تحملهُ من عبءِ عيالك حتى ينكشفَ هذا الضرّ الذي مسَّ الناس.
فقال لهما: إذا تركتما لي " عقيلاً " - هو عقيل بن أبي طالب أخو علي وهو أكبر منه - فاصنعا ما شِئتما.
فأخذ مُحمدٌ علياً وضمَّه إليه، وأخذ العباسُ جعفراً وجعله في عيالِه.
فلم يزل عليٌ مع مُحمدٍ حتى بعثهُ الله بدينِ الهُدى والحق، فكان أول من آمن من الفتيانِ.
وظلَّ جعفـرُ مع عمِّه العباسِ حتى شبَّ وأسلمَ واستغنى عنه.
انضمَّ جعفرُ بن أبي طالبٍ إلى ركبِ النورِ هو وزوجُه أسماءُ بنتُ عُميسٍ مُنذ أولِ الطريق.
فقد أسلما على يدي الصِّديق رضي الله عنهُ قبل أن يدخلَ الرسول دارَ الأرقمِ - دار بمكة تسمى " دار الإسلام" كانت للأرقم بن عبد مناف المخزومي، وفيها كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام وقد مر ذكرها -.
ولقيَ الفتى الهاشميُ وزوجُه الشابة من أذى قريشٍ ونكالِها ما لقيه المسلِمون الأولون، فصبَرا على الأذى لأنهما كان يَعلمان أن طريق الجنةِ مفروشٌ بالأشواكِ محفوفٌ بالمكارِه - محاط بالمصاعب والآلام - ولكنَّ الذي كان يُنغصهما - يكدرهما ويعكر صفوهما - ويُنغصُ إخوتهما في الله أنّ قريشاً كانت تحول دونهم ودون أداءِ شعائر الإسلام، وتحرمُهم من أنْ يتذوقوا لذة العبادة؛ فقد كانت تقفُ لهم في كلِّ مَـرصدٍ - تترصدهم في كل جهة -، وتحصي عليهم الأنفاسَ.
عند ذلك استأذن جَعفرُ بن أبي طالبٍ رسول الله صلوات الله عليه بأن يُهاجرَ مع زوجه ونفرٍ من الصحابة إلى أرضِ الحَبشة، فأذن لهم وهو أسْوانُ - محزون - حزين.
فقد كان يَعز عليه أن يُرغمَ هؤلاء الأطهارُ الأبرارُ على مُفارقة ديارهم، ومُبارحةِ - ترك - مراتِع - ديارهم التي رتعوا فيها ولعبوا وهم صغار - طفولتِهم ومغاني - ديارهم التي قضوا فيها عهد الشباب - شبابهم دون ذنبٍ جَنوه إلا أنهم قالوا: ربُنا الله.
ولكنه لم يكنْ يملكُ من القوة والحَول ما يدفعُ به عنهم أذى قريش.
* * *
- مضى ركبُ المهاجرين الأولين إلى أرضِ الحَبشة، وعلى رأسِهم جعفرُ ابنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه، واستقروا في كنفِ - حماه ورعايته - النجاشيِّ ملكها العادلِ الصالح.
فتذوقوا لأولِ مرةٍ - منذ أسلموا - طعمَ الأمنِ، واستمتعوا بحلاوةِ العِبادة دون أن يُعكرَ مُتعة عبادتِهم مُعكرٌ أو يُكدرَ صفو سعادتهم مُكدِّر.
لكنَّ قريشاً ما كادت تعلمُ برحيلِ هذا النفر من المسلمين إلى أرضِ الحبشةِ، وتقفُ على ما نالوه من حِمَى مليكِها من الطمأنينةِ على دينهم، والأمنِ على عقيدتهم، حتى هبَّت تأتمِرُ بهم - يأمر بعضهم بعضاُ بقتلهم - لتقتلهم أو تسترجعهم إلى السجن الكبير.
فلتترُكِ الحديث لأمِّ سَلمة - هي هند بنت سهيل المخزومية تزوجت أبا سلمة بن عبد الأسد وأسلمت معه وهاجرا إلى الحبشة ولما توفي في المدينة متأثراً بجراحه تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم - لترويَ لنا الخبرَ كما رأتهُ عيناها وسمِعته أذناها.
قالت أمُ سلمة : لما نزلنا أرضَ الحبشةِ لقينا فيها خير جوارٍ، فأمِنّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى ربّنا من غيرِ أن نؤذى أو نسمعَ شيئاً نكرههُ، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمرتْ بنا فأرْسلت إلى النجاشيِّ رجلين جلدينِ - قويين - من رجالها، هما: عمرُو بن العاص وعبدُ الله بن أبي ربيعة، وبَعثْ معها بهدايا كثيرةٍ للنجاشيِّ ولبطارقته - جمع بطريق: وهو رجل الدين عند النصارى - مِما كانوا يَستطرفونه - يستحسنوه ويعجبون به - من أرض الحِجاز. ثم أوصتهُما بأن يَدفعا إلى كل بطريقٍ هديته قبلَ أن يُكلما ملك الحَبشة في أمرنا.
* * *
- فلمَّا قدِما الحَبشة لقيا بطارِقة النجاشيِّ، ودفعا إلى كل بطريقٍ هديته؛ فلم يَبق أحدٌ منهم إلا أهديا إليه وقالا له: إنه قد حَلَّ في أرضِ الملك غلمانٌ من سُفهائنا، صبئوا - ارتدوا عنه - عن دين آبائِهم وأجدادِهم، وفرقوا كلِمة قومِهم؛ فإذا كلمنا الملك في أمرِهم فأشيروا عليه بأن يُسلمهم إلينا دون أن يَسألهم عن دينهم؛ فإن أشرافَ قومهم أبصرُ بهم، وأعلمُ بما يعتقدون.
فقال البطارِقة: نعم....
قالت أمُ سَلمة: ولم يكن هناك شيءٌ أكرهُ لعمرٍو وصاحبه من أن يَستدعي النجاشيّ أحداً منا ويَسمع كلامه.
* * *
- ثم أتيا النجاشيَّ وقدّما إليه الهدايا، فاستطرَفها - استحسنها - وأعجبَ بها، ثم كلماه فقالا:
أيها الملكُ إنه قد أوَى إلى مملكتِك طائفة من أشرارِ غِلماننا، قد جاؤوا بدينٍ لا نعرفهُ نحنُ ولا أنتم؛ ففارقوا ديننا ولم يَدخلوا في دينكم.
وقد بَعثنا إليك أشرافُ قومِهم من آبائهم وأعمَامهم وعشائرهم لتردَّهم إليهم، وهم أعلمُ الناس بما أحدثوه من فتنةٍ.
فنظر النجاشيُ إلى بطارقته، فقال البطارقة: صَدقا - أيها الملك-... فإنّ قومهُم أبصرُ بهم وأعلمُ بما صنعوا، فرُدهُم إليهم ليروا رأيهُم فيهم.
فغضبَ الملك غضباً شديداً من كلامِ بطارقتِه وقال: لا والله، لا أسلمُهُم لأحدٍ حتى أدعُوهم، وأسألهُم عما نُسِبَ إليهم، فإن كانوا كما يقولُ هذان الرجلان أسلمتهُم لهما، وإن كانوا على غير ذلك حمَيتهُم وأحسنتُ جوارهم ما جاوروني - ما داموا يرغبون في حمايتي -.
* * *
- قالت أمُ سلمة : ثم أرسلَ النجاشيُ يدعونا لِلقائه.
فاجتمعنا قبلَ الذهاب إليه وقال بعضنا لبعضٍ: إن الملك سَيَسألكم عن دينكم فاصدَعُوا - فا جهروا - بما تؤمنون به، وليتكلم عنكم جعفرُ بنُ أبي طالبٍ، ولا يتكلم أحدٌ غيرُه.
قالت أمُ سلمة: ثم ذهبنا إلى النجاشيِّ فوجدناه قد دعا بَطارقته، فجلسُوا عن يمينه وعن شماله، وقد لبسوا طيالِستهُم - الطيالسة -جمع طيلسان وهو كساء أخضر يلبسه الأشراف ورجال الدين -، واعتمرُوا قلانِسهم - وضعوها على رؤوسهم -، ونشروا كتبهم بين أيديهم.
ووجدنا عنده عمرَو بن العاصِ وعبد الله بن أبي ربيعة.
فلما استقرَّ بنا المجلسُ التفتَ إلينا النجاشيُّ وقال: ما هذا الدينُ الذي استحدثتموه لأنفُسكم وفارقتم بسببِه دين قومِكم, ولم تدخُلوا في ديني، ولا في دينِ أي من هذه المللِ؟.
فتقدمَ منه جعفرُ بن أبي طالبٍ وقال: أيها الملك، كنا قوماُ أهل جاهليةٍ، نعبدُ الأصنام، ونأكلُ المَيتة، ونأتي الفواحِش ونقطعُ الأرحام، ونسيءُ الجوارَ ويأكلُ القويُ منا الضعيفَ وبقينا على ذلك حتى بَعث الله إلينا رسولاً منا نعرفُ نسَبهُ وصدقهُ وأمانتهُ وعفافه...
فدعانا إلى الله؛ لنوحِدَه ونعبده ونخلعَ ما كنا نعبدُ نحنُ وآباؤنا من دونه من الحجارةِ والأوثان...
وقد أمَرنا بصدق الحديثِ، وأداءِ الأمانةِ، وصلةِ الرَّحمِ وحُسن الجوارِ والكفِّ عن المحارِم وحقنِ الدماء - حفظها وعدم إراقتها - ونهانا عن الفواحِش وقول الزورِ، وأكل مالِ اليتيمِ وقذف المُحصنات ِ - اتهام النساء الطاهرات العفيفات -.
وأمرنا أن نعبُدَ الله وحده ولا نُشرك به شيئاً، وأن نقيمَ الصلاة ونُؤتي الزكاة ونصومَ رمضان...
فصَدقناه، وآمنا به، واتبعناهُ على ما جاء به من عندِ الله، فحللنا ما أحلَّ لنا، وحَرمنا ما حَرَّم علينا.
فما كان من قومنا أيها الملكُ إلا أن عَدوا علينا فعذبونا أشدَّ العذاب ليفتنونا عن ديننا - ليرجعونا عنه - ويَرُدونا إلى عبادةِ الأوثان....
فلمَّا ظلمُونا وقهرونا، وضيقوا علينا، وحالوا بَيننا وبين ديننا خرجوا إلى بلادِك، واخترناك على من سِواك، ورَغبنا في جوارِك، ورَجونا ألا نظلم عِندك.
قالت أم سلمة: فالتفتَ النجاشيُ إلى جعفرِ بن أبي طالب، وقال: هل مَعك شيء مما جاء به نبيكم عن الله؟ قال: نعم، قال: فاقرأهُ علي.
فقرأ عليه:﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا* إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾ مريم 1-4.
حتى أتم صدراً من السورة.
قالت أم سلمَة: فبكى النجاشيُ حتى اخضلت - تبللت - لحيته بالدُموعِ، وبكى أساقِفته حتى بَللوا كتبهم، لِما سمعوه من كلامِ الله....
وهنا قال لنا النجاشيُ: إن هذا الذي جاءَ به نبيكم والذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاة - ما يوضع عليه المصباح والمراد يخرجان من نور واحد - واحدة.
ثم التفتَ إلى عمرٍو وصاحبه وقال لهما: انطلقا، فلا والله لا أسلمُهم إليكما أبداً.
قالت أم سَلمة: فلما خرجنا من عند النجاشيِّ توعدنا - هددنا - عمرُو بن العاصِ وقال لصاحبه:
والله لآتينَّ الملك غداً، ولأذكرنَّ له من أمرهم ما يملأ صدرهُ غيظاً منهُم ويشحَن فؤاده - يملؤه - كرهاً لهم.
ولأحمِلنّه على أن يستأصلهُم - يقطعهم من أصولهم وهو كناية عن شدة الفتك - من جُذورهم.
فقال له عبدُ الله بن أبي ربيعة: لا تفعَل يا عمرو، فإنهم من ذوي قربانا، وإن كانوا قد خالفونا. فقال له عمرو: دع عنك هذا... والله لأخبرَنّه بما يُزلزلُ أقدامهُم....
والله لأقولنَّ له: إنهم يزعُمون أن عِيسى بن مريمَ عبدٌ....
* * *
- فلما كان الغدُ دخلَ عمرٌو على النجاشيِّ وقال له: أيها الملك، إن هؤلاء الذين آويتهم وحَميتهُم، يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً.
فأرسل إليهم، وسلهُم عما يقولنه فيه.
قالت أم سلمة: فلما عَـرفنا ذلك، نـزلَ بنا من الهمِّ والغمِّ ما لم نتعَّرض لمثله قط.
وقال بعضنا لبعضٍ: ماذا تقولون في عيسَى بن مريمَ إذا سألكم عنهُ الملك؟
فقلنا : والله لا نقولُ فيه إلا ما قال الله، ولا نخرُج في أمرِه قيدَ أنملة - مقدار أنملة وهي رأس الإصبع - عمّا جاءنا به نبينا، وليكن بسبب ذلك ما يكون.
ثم اتفقنا على أن يتولى الكلامَ عنا جعفرُ بن أبي طالب أيضاً.
فلما دعانا النجاشيُ دخلنا عليه فوجَدنا عِنده بطارقته على الهيئةِ التي رأيناهم عليها من قبل.
ووجدنا عنده عمرو بن العاصِ وصاحبه.
فلما صِرنا بين يديهِ بادرنا بقوله: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟
فقال له جعفرُ بنُ أبي طالب: إنما نقول فيه ما جاءَ به نبينا صلى الله عليه وسلم.
فقال النجاشيُ: وما الذي يقول فيه؟
فأجاب جَعفر: يقول عنه: إنه عبدُ الله ورسوله، وروحُه وكلمته التي ألقاها إلى مريمَ العَذراء البتول.
فما إن سمعَ النجاشي قولَ جعفرٍ حتى ضربَ بيده الأرض وقال: والله، ما خرجَ عيسى بنُ مريم عما جاءَ به نبيكم مقدارَ شعرة....
فتناخرَتِ البطارقة - أخرجوا أصواتاً من أنوفهم - من حول النجاشي استِنكاراً لما سمعوا منه....
فقال: وإن نخرتم...
ثم التفتَ وقال: اذهبُوا فأنتم آمنون.....
من سَبكم غرِم، ومن تعرضَ لكم عُوقب...
والله ما أحبُّ أن يكون لي جبلٌ من ذهبٍ، وأن يُصابَ أحدٌ منكم بسوء.
ثم نظرَ إلى عمرٍو وصاحبه وقال: رُدوا على هذين الرَّجلين هداياهما؛ فلا حاجة لي...
قالت أم سلمة: فخرجَ عمروٌ وصاحبُه مكسورينِ مَقهورين يجُران أذيالَ الخيبة.
أما نحن فقد أقمنا عِند النجاشيِّ بخير دارٍ مع أكرمِ جارٍ.
* * *
- قضى جَعفرُ بن أبي طالب هو وزوجته في رحاب النجاشيِّ عشر سنواتٍ آمنين مطمئنين.
وفي السنةِ السابعةِ للهجرة غادرا بلاد الحبشة مع نفرٍ من المسلمين مُتجهين إلى يثربَ، فلما بلغوها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عائداً لتوه من خيبرَ - حصون لليهود فتحها الرسول صلى الله عليه وسلم سنة سبع للهجرة وغنم منها مغانم كثيرة -، بعد أن فتحها الله له.
ففرحَ بلقاءِ جعفر فرحاً شديداً حتى قال: ما أدرِي بأيهما أشد فرحاً!!
أبفتح خيبرَ أم بقدومِ جعفــر؟
ولم تكن فرحة المسلمين عامةً والفقراء منهم خاصةً بعودة جعفرٍ بأقلّ من فرحة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
فقد كان جعفـرٌ شديدَ الحدبِ - شديد العطف والرعاية - على الضعفاءِ كثير البرِّ بهم، حتى إنه كان يُلقبُ بأبي المساكين.
أخبرَ عنه أبو هريرة فقال: كان خيرَ الناسِ لنا - معشرَ المساكين - جعفرُ بن أبي طالب، فقد كان يَمضي بنا إلى بيته فيطعمُنا ما يكون عِنده، حتى إذا نفذ طعامُه أخرجَ لنا العُكة - قربة صغيرة يوضع فيها السمن - التي يوضع فيها السمن وليسَ فيها شيءٌ، فنشقها ونلعقُ ما علِق بداخلها...
* * *
- لم يَطل مُكث - الإقامة - جعفرِ بن أبي طالبٍ في المدينة.
ففي أوائلِ السنةِ الثامنةِ للهجرةِ جهز الرسول صلوات الله وسلامه عليه جَيشاً لمنازلة الرّومِ في بلاد الشامِ، وأمر على الجيشِ زيدَ بن حارِثة وقال: إن قتل زيدٌ أو أصيبَ فالأميرُ جَعفرُ بن أبي طالبٍ، فإن قتلَ جعفرٌ أو أصيب فالأميرُ عبد الله بن رواحة, فإن قتل عبد الله بن رواحة أو أصيب فليخترِ المسلمون لأنفسهم أميراً منهم.
فلما وصلَ المسلمون إلى " مُؤتة " وهي قريةٌ واقعةٌ على مشارفِ الشامِ في الأردن؛ وجدوا أن الرومَ قد أعدوا لهم مائة ألفٍ تظاهرُهم - تساندهم وتدعمهم - مائة ألفٍ أخرى من نصارى العرب من قبائلِ لخمٍ وجُذامٍ وقضاعة وغيرها.
أما جيشُ المسلمون فكان ثلاثة آلاف...
وما إن التقى الجمعانِ ودارَت رحى المعركةِ حتى خرَّ زيدُ بن حارِثة صريعاً مُقبلاً غير مُدبرٍ.
فما أسرع أن وثبَ جعفرُ بن أبي طالبٍ عن ظهرِ فرسٍ كانت له شقراء، ثم عقرها - ضرب قوائمها بسيفه - بسَيفه حتى لا ينتفع بها الأعداءُ من بعده.
وحَمل الرايَة وأوغلَ - دخل بعيداً - في صفوف الروم وهو يُنشدُ:
يا حَبّذا الجنة واقترابُها طيبةٌ وباردٌ شرابُها
والرومُ رومٌ قد دَنا عذابها كافِرةٌ بعيدة أنسابُها
عَليَّ إذا لاقيتها ضِرابُها
وظلَّ يجول في صفوفِ الأعداءِ بسيفِه ويصولُ حتى أصابتهُ ضربةٌ قطعَت يمينَه، فأخذ الراية بشمالِه، فما لبث أن أصابتهُ أخرى قطعت شِماله، فأخذ الراية بصَدرِه وعَضُديه، فما لبث أن أصابتهُ ثالثةٌ شطرتهُ شطريـنِ - قسمته نصفين -، فأخذ الرَّاية منهُ عبد الله بنُ روَاحَه فما زال يقاتلُ حتى لحق بصَاحبيه.
* * *
- بَلغ الرسول صلوات الله عليه مصرع قوادِه الثلاثة فحزِن عليهم أشدَّ الحزن وأمَضه - أوجعه - وانطلق إلى بيتِ ابن عمِّه جعفرِ بن أبي طالبٍ، فألفى - وجد - زوجته أسماءَ تتأهبُ لاستقبالِ زوجها الغائِب.
فهيَ قد عَجنت عجينها، وغسَلت بنيها ودهنتهم وألبَستهم....
قالت أسماءُ: فلما أقبلَ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيتُ غلالةً - ثوب رقيق شفاف - من الحُزن تُوشح - تغطي - وجهه الكريمَ، فسَرَت ِالمخاوفُ في نفسي، غير أني لم أشأ أن أسألهُ عن جعفرٍ مخاوفه أن أسمَعَ منه ما أكرهُ.
فحيَّا وقال: " ائتني بأولادِ جعفرٍ. فدعوتهم له ".
فهبوا نحوهُ فرِحين مُزغردين، وأخذوا يتزاحمون عليه، كل يريدُ أن يَستأثر به.
فأكبَّ عليهم، وجعل يتشمَّمُهم، وعيناه تذرِفان من الدمع.
فقلت: يا رسولَ الله - بأبي أنت وأمِّي - ما يُبكيك؟! أبلغك عن جعفر وصاحبيه شيء؟! قال:
( نعم.... لقد استشهدوا هذا اليوم..)
عند ذلك غاضتِ البَسمة من وجوه الصغار لما سمعوا أمهُم تبكي وتنشِج، وجَمدوا في أماكنهم كأن على رؤوسهم الطيرَ - مثل يضرب لشدة السكون -.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى وهو يكفكِفُ - يمسح دموعه - عبراته ويقول:
( اللهُمَّ اخلفْ جعفراً في وَلدِه.... اللهم اخلف جعفراً في أهلِه...)
ثم قال:( لقد رأيتُ جعفراً في الجنة، له جناحان مُضرَّجان بالدماء، وهو مَصبوغ القوادم ).
* كان في بني عبدِ منافٍ - من أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبنوه هم العشيرة الأقربون للنبي الكريم- خمسة رجالٍ يُشبهون رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ الشبهِ حتى إنَّ ضِعافَ البصرِ كثيراً ما كانوا يخلطون بين النبيِّ وبينهم.
ولا ريبَ في أنك تودّ أن تعـرِف هؤلاء الخمسة الذي يُشبهون نبيّك عليه أفضلُ الصلاة وأزكى السَّلام.
فتعالَ نتعــرَّف عليهم.
إنهم: أبو سُفيان بنُ الحارثِ بـن عبد المُطلب وهو ابنُ عَم الرسول وأخوه من الرضاع.
وقثمُ بنُ العَباسِ بنِ عبدِ المطلب، وهو ابنُ عمِّ النبي أيضاً.
والسائِبُ بنُ عُبيد بن عبدِ يزيدَ بن هاشمٍ جدُ الإمام الشافعيِّ رضي الله عنه.
والحَسنُ بن عليّ سِبط - ابن ابنته، وحفيده:ابن ابنه - رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشدَّ الخمسةِ شبهاً بالنبي صلوات الله عليه.
وجَعفرُ بنُ أبي طالبٍ، وهو أخو أميرِ المؤمنين عليِّ بن أبي طالب.
فتعالَ نقصَّ عليك صوراً من حياة جعفرَ.
كان أبو طالب - على الرَّغم من سُمُوِّ شرفه في قريش، وعلوِّ منزلته في قومه - رقيق الحالِ كثيرَ العيالِ.
وقد ازدادت حاله سوءاً على سوءٍ بسببِ تلك السنةِ المُجدبةِ - التي انقطع مطرها - التي نزلتْ بقريشٍ فأهلكتِ الضَّرع - كناية عن الماشية -، وحَملتِ الناس على أن يأكلوا العِظام البالية.
ولم يكنْ في بني هاشمٍ - يومئذٍ - أيسرُ - أغنى - مِن محمد بنِ عبد الله، ومن عَمِّه العباسِ.
فقال محمدٌ للعباس: يا عمّ، إنَّ أخاك أبا طالب كثيرُ العيال، وقد أصابَ الناس ما ترى من شدةِ القحطِ - الجدب واحتباس المطر - ومَضضِ الجوع - ألمه -، فانطلق بنا إليه حتى نحمِل عنهُ بعضَ عياله؛ فآخذ أنا فتىً من بنيه، وتأخذ أنت فتىً آخر فنكفيهما عنه.
فقال العباسُ: لقد دَعوتَ إلى خيرٍ وحَضضت على برٍ.
ثم انطلقا حتى أتيا أبا طالبٍ، فقالا له: إنا نريدُ أن نُخفف عنك بعضَ ما تحملهُ من عبءِ عيالك حتى ينكشفَ هذا الضرّ الذي مسَّ الناس.
فقال لهما: إذا تركتما لي " عقيلاً " - هو عقيل بن أبي طالب أخو علي وهو أكبر منه - فاصنعا ما شِئتما.
فأخذ مُحمدٌ علياً وضمَّه إليه، وأخذ العباسُ جعفراً وجعله في عيالِه.
فلم يزل عليٌ مع مُحمدٍ حتى بعثهُ الله بدينِ الهُدى والحق، فكان أول من آمن من الفتيانِ.
وظلَّ جعفـرُ مع عمِّه العباسِ حتى شبَّ وأسلمَ واستغنى عنه.
انضمَّ جعفرُ بن أبي طالبٍ إلى ركبِ النورِ هو وزوجُه أسماءُ بنتُ عُميسٍ مُنذ أولِ الطريق.
فقد أسلما على يدي الصِّديق رضي الله عنهُ قبل أن يدخلَ الرسول دارَ الأرقمِ - دار بمكة تسمى " دار الإسلام" كانت للأرقم بن عبد مناف المخزومي، وفيها كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام وقد مر ذكرها -.
ولقيَ الفتى الهاشميُ وزوجُه الشابة من أذى قريشٍ ونكالِها ما لقيه المسلِمون الأولون، فصبَرا على الأذى لأنهما كان يَعلمان أن طريق الجنةِ مفروشٌ بالأشواكِ محفوفٌ بالمكارِه - محاط بالمصاعب والآلام - ولكنَّ الذي كان يُنغصهما - يكدرهما ويعكر صفوهما - ويُنغصُ إخوتهما في الله أنّ قريشاً كانت تحول دونهم ودون أداءِ شعائر الإسلام، وتحرمُهم من أنْ يتذوقوا لذة العبادة؛ فقد كانت تقفُ لهم في كلِّ مَـرصدٍ - تترصدهم في كل جهة -، وتحصي عليهم الأنفاسَ.
عند ذلك استأذن جَعفرُ بن أبي طالبٍ رسول الله صلوات الله عليه بأن يُهاجرَ مع زوجه ونفرٍ من الصحابة إلى أرضِ الحَبشة، فأذن لهم وهو أسْوانُ - محزون - حزين.
فقد كان يَعز عليه أن يُرغمَ هؤلاء الأطهارُ الأبرارُ على مُفارقة ديارهم، ومُبارحةِ - ترك - مراتِع - ديارهم التي رتعوا فيها ولعبوا وهم صغار - طفولتِهم ومغاني - ديارهم التي قضوا فيها عهد الشباب - شبابهم دون ذنبٍ جَنوه إلا أنهم قالوا: ربُنا الله.
ولكنه لم يكنْ يملكُ من القوة والحَول ما يدفعُ به عنهم أذى قريش.
* * *
- مضى ركبُ المهاجرين الأولين إلى أرضِ الحَبشة، وعلى رأسِهم جعفرُ ابنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه، واستقروا في كنفِ - حماه ورعايته - النجاشيِّ ملكها العادلِ الصالح.
فتذوقوا لأولِ مرةٍ - منذ أسلموا - طعمَ الأمنِ، واستمتعوا بحلاوةِ العِبادة دون أن يُعكرَ مُتعة عبادتِهم مُعكرٌ أو يُكدرَ صفو سعادتهم مُكدِّر.
لكنَّ قريشاً ما كادت تعلمُ برحيلِ هذا النفر من المسلمين إلى أرضِ الحبشةِ، وتقفُ على ما نالوه من حِمَى مليكِها من الطمأنينةِ على دينهم، والأمنِ على عقيدتهم، حتى هبَّت تأتمِرُ بهم - يأمر بعضهم بعضاُ بقتلهم - لتقتلهم أو تسترجعهم إلى السجن الكبير.
فلتترُكِ الحديث لأمِّ سَلمة - هي هند بنت سهيل المخزومية تزوجت أبا سلمة بن عبد الأسد وأسلمت معه وهاجرا إلى الحبشة ولما توفي في المدينة متأثراً بجراحه تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم - لترويَ لنا الخبرَ كما رأتهُ عيناها وسمِعته أذناها.
قالت أمُ سلمة : لما نزلنا أرضَ الحبشةِ لقينا فيها خير جوارٍ، فأمِنّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى ربّنا من غيرِ أن نؤذى أو نسمعَ شيئاً نكرههُ، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمرتْ بنا فأرْسلت إلى النجاشيِّ رجلين جلدينِ - قويين - من رجالها، هما: عمرُو بن العاص وعبدُ الله بن أبي ربيعة، وبَعثْ معها بهدايا كثيرةٍ للنجاشيِّ ولبطارقته - جمع بطريق: وهو رجل الدين عند النصارى - مِما كانوا يَستطرفونه - يستحسنوه ويعجبون به - من أرض الحِجاز. ثم أوصتهُما بأن يَدفعا إلى كل بطريقٍ هديته قبلَ أن يُكلما ملك الحَبشة في أمرنا.
* * *
- فلمَّا قدِما الحَبشة لقيا بطارِقة النجاشيِّ، ودفعا إلى كل بطريقٍ هديته؛ فلم يَبق أحدٌ منهم إلا أهديا إليه وقالا له: إنه قد حَلَّ في أرضِ الملك غلمانٌ من سُفهائنا، صبئوا - ارتدوا عنه - عن دين آبائِهم وأجدادِهم، وفرقوا كلِمة قومِهم؛ فإذا كلمنا الملك في أمرِهم فأشيروا عليه بأن يُسلمهم إلينا دون أن يَسألهم عن دينهم؛ فإن أشرافَ قومهم أبصرُ بهم، وأعلمُ بما يعتقدون.
فقال البطارِقة: نعم....
قالت أمُ سَلمة: ولم يكن هناك شيءٌ أكرهُ لعمرٍو وصاحبه من أن يَستدعي النجاشيّ أحداً منا ويَسمع كلامه.
* * *
- ثم أتيا النجاشيَّ وقدّما إليه الهدايا، فاستطرَفها - استحسنها - وأعجبَ بها، ثم كلماه فقالا:
أيها الملكُ إنه قد أوَى إلى مملكتِك طائفة من أشرارِ غِلماننا، قد جاؤوا بدينٍ لا نعرفهُ نحنُ ولا أنتم؛ ففارقوا ديننا ولم يَدخلوا في دينكم.
وقد بَعثنا إليك أشرافُ قومِهم من آبائهم وأعمَامهم وعشائرهم لتردَّهم إليهم، وهم أعلمُ الناس بما أحدثوه من فتنةٍ.
فنظر النجاشيُ إلى بطارقته، فقال البطارقة: صَدقا - أيها الملك-... فإنّ قومهُم أبصرُ بهم وأعلمُ بما صنعوا، فرُدهُم إليهم ليروا رأيهُم فيهم.
فغضبَ الملك غضباً شديداً من كلامِ بطارقتِه وقال: لا والله، لا أسلمُهُم لأحدٍ حتى أدعُوهم، وأسألهُم عما نُسِبَ إليهم، فإن كانوا كما يقولُ هذان الرجلان أسلمتهُم لهما، وإن كانوا على غير ذلك حمَيتهُم وأحسنتُ جوارهم ما جاوروني - ما داموا يرغبون في حمايتي -.
* * *
- قالت أمُ سلمة : ثم أرسلَ النجاشيُ يدعونا لِلقائه.
فاجتمعنا قبلَ الذهاب إليه وقال بعضنا لبعضٍ: إن الملك سَيَسألكم عن دينكم فاصدَعُوا - فا جهروا - بما تؤمنون به، وليتكلم عنكم جعفرُ بنُ أبي طالبٍ، ولا يتكلم أحدٌ غيرُه.
قالت أمُ سلمة: ثم ذهبنا إلى النجاشيِّ فوجدناه قد دعا بَطارقته، فجلسُوا عن يمينه وعن شماله، وقد لبسوا طيالِستهُم - الطيالسة -جمع طيلسان وهو كساء أخضر يلبسه الأشراف ورجال الدين -، واعتمرُوا قلانِسهم - وضعوها على رؤوسهم -، ونشروا كتبهم بين أيديهم.
ووجدنا عنده عمرَو بن العاصِ وعبد الله بن أبي ربيعة.
فلما استقرَّ بنا المجلسُ التفتَ إلينا النجاشيُّ وقال: ما هذا الدينُ الذي استحدثتموه لأنفُسكم وفارقتم بسببِه دين قومِكم, ولم تدخُلوا في ديني، ولا في دينِ أي من هذه المللِ؟.
فتقدمَ منه جعفرُ بن أبي طالبٍ وقال: أيها الملك، كنا قوماُ أهل جاهليةٍ، نعبدُ الأصنام، ونأكلُ المَيتة، ونأتي الفواحِش ونقطعُ الأرحام، ونسيءُ الجوارَ ويأكلُ القويُ منا الضعيفَ وبقينا على ذلك حتى بَعث الله إلينا رسولاً منا نعرفُ نسَبهُ وصدقهُ وأمانتهُ وعفافه...
فدعانا إلى الله؛ لنوحِدَه ونعبده ونخلعَ ما كنا نعبدُ نحنُ وآباؤنا من دونه من الحجارةِ والأوثان...
وقد أمَرنا بصدق الحديثِ، وأداءِ الأمانةِ، وصلةِ الرَّحمِ وحُسن الجوارِ والكفِّ عن المحارِم وحقنِ الدماء - حفظها وعدم إراقتها - ونهانا عن الفواحِش وقول الزورِ، وأكل مالِ اليتيمِ وقذف المُحصنات ِ - اتهام النساء الطاهرات العفيفات -.
وأمرنا أن نعبُدَ الله وحده ولا نُشرك به شيئاً، وأن نقيمَ الصلاة ونُؤتي الزكاة ونصومَ رمضان...
فصَدقناه، وآمنا به، واتبعناهُ على ما جاء به من عندِ الله، فحللنا ما أحلَّ لنا، وحَرمنا ما حَرَّم علينا.
فما كان من قومنا أيها الملكُ إلا أن عَدوا علينا فعذبونا أشدَّ العذاب ليفتنونا عن ديننا - ليرجعونا عنه - ويَرُدونا إلى عبادةِ الأوثان....
فلمَّا ظلمُونا وقهرونا، وضيقوا علينا، وحالوا بَيننا وبين ديننا خرجوا إلى بلادِك، واخترناك على من سِواك، ورَغبنا في جوارِك، ورَجونا ألا نظلم عِندك.
قالت أم سلمة: فالتفتَ النجاشيُ إلى جعفرِ بن أبي طالب، وقال: هل مَعك شيء مما جاء به نبيكم عن الله؟ قال: نعم، قال: فاقرأهُ علي.
فقرأ عليه:﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا* إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾ مريم 1-4.
حتى أتم صدراً من السورة.
قالت أم سلمَة: فبكى النجاشيُ حتى اخضلت - تبللت - لحيته بالدُموعِ، وبكى أساقِفته حتى بَللوا كتبهم، لِما سمعوه من كلامِ الله....
وهنا قال لنا النجاشيُ: إن هذا الذي جاءَ به نبيكم والذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاة - ما يوضع عليه المصباح والمراد يخرجان من نور واحد - واحدة.
ثم التفتَ إلى عمرٍو وصاحبه وقال لهما: انطلقا، فلا والله لا أسلمُهم إليكما أبداً.
قالت أم سَلمة: فلما خرجنا من عند النجاشيِّ توعدنا - هددنا - عمرُو بن العاصِ وقال لصاحبه:
والله لآتينَّ الملك غداً، ولأذكرنَّ له من أمرهم ما يملأ صدرهُ غيظاً منهُم ويشحَن فؤاده - يملؤه - كرهاً لهم.
ولأحمِلنّه على أن يستأصلهُم - يقطعهم من أصولهم وهو كناية عن شدة الفتك - من جُذورهم.
فقال له عبدُ الله بن أبي ربيعة: لا تفعَل يا عمرو، فإنهم من ذوي قربانا، وإن كانوا قد خالفونا. فقال له عمرو: دع عنك هذا... والله لأخبرَنّه بما يُزلزلُ أقدامهُم....
والله لأقولنَّ له: إنهم يزعُمون أن عِيسى بن مريمَ عبدٌ....
* * *
- فلما كان الغدُ دخلَ عمرٌو على النجاشيِّ وقال له: أيها الملك، إن هؤلاء الذين آويتهم وحَميتهُم، يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً.
فأرسل إليهم، وسلهُم عما يقولنه فيه.
قالت أم سلمة: فلما عَـرفنا ذلك، نـزلَ بنا من الهمِّ والغمِّ ما لم نتعَّرض لمثله قط.
وقال بعضنا لبعضٍ: ماذا تقولون في عيسَى بن مريمَ إذا سألكم عنهُ الملك؟
فقلنا : والله لا نقولُ فيه إلا ما قال الله، ولا نخرُج في أمرِه قيدَ أنملة - مقدار أنملة وهي رأس الإصبع - عمّا جاءنا به نبينا، وليكن بسبب ذلك ما يكون.
ثم اتفقنا على أن يتولى الكلامَ عنا جعفرُ بن أبي طالب أيضاً.
فلما دعانا النجاشيُ دخلنا عليه فوجَدنا عِنده بطارقته على الهيئةِ التي رأيناهم عليها من قبل.
ووجدنا عنده عمرو بن العاصِ وصاحبه.
فلما صِرنا بين يديهِ بادرنا بقوله: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟
فقال له جعفرُ بنُ أبي طالب: إنما نقول فيه ما جاءَ به نبينا صلى الله عليه وسلم.
فقال النجاشيُ: وما الذي يقول فيه؟
فأجاب جَعفر: يقول عنه: إنه عبدُ الله ورسوله، وروحُه وكلمته التي ألقاها إلى مريمَ العَذراء البتول.
فما إن سمعَ النجاشي قولَ جعفرٍ حتى ضربَ بيده الأرض وقال: والله، ما خرجَ عيسى بنُ مريم عما جاءَ به نبيكم مقدارَ شعرة....
فتناخرَتِ البطارقة - أخرجوا أصواتاً من أنوفهم - من حول النجاشي استِنكاراً لما سمعوا منه....
فقال: وإن نخرتم...
ثم التفتَ وقال: اذهبُوا فأنتم آمنون.....
من سَبكم غرِم، ومن تعرضَ لكم عُوقب...
والله ما أحبُّ أن يكون لي جبلٌ من ذهبٍ، وأن يُصابَ أحدٌ منكم بسوء.
ثم نظرَ إلى عمرٍو وصاحبه وقال: رُدوا على هذين الرَّجلين هداياهما؛ فلا حاجة لي...
قالت أم سلمة: فخرجَ عمروٌ وصاحبُه مكسورينِ مَقهورين يجُران أذيالَ الخيبة.
أما نحن فقد أقمنا عِند النجاشيِّ بخير دارٍ مع أكرمِ جارٍ.
* * *
- قضى جَعفرُ بن أبي طالب هو وزوجته في رحاب النجاشيِّ عشر سنواتٍ آمنين مطمئنين.
وفي السنةِ السابعةِ للهجرة غادرا بلاد الحبشة مع نفرٍ من المسلمين مُتجهين إلى يثربَ، فلما بلغوها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عائداً لتوه من خيبرَ - حصون لليهود فتحها الرسول صلى الله عليه وسلم سنة سبع للهجرة وغنم منها مغانم كثيرة -، بعد أن فتحها الله له.
ففرحَ بلقاءِ جعفر فرحاً شديداً حتى قال: ما أدرِي بأيهما أشد فرحاً!!
أبفتح خيبرَ أم بقدومِ جعفــر؟
ولم تكن فرحة المسلمين عامةً والفقراء منهم خاصةً بعودة جعفرٍ بأقلّ من فرحة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
فقد كان جعفـرٌ شديدَ الحدبِ - شديد العطف والرعاية - على الضعفاءِ كثير البرِّ بهم، حتى إنه كان يُلقبُ بأبي المساكين.
أخبرَ عنه أبو هريرة فقال: كان خيرَ الناسِ لنا - معشرَ المساكين - جعفرُ بن أبي طالب، فقد كان يَمضي بنا إلى بيته فيطعمُنا ما يكون عِنده، حتى إذا نفذ طعامُه أخرجَ لنا العُكة - قربة صغيرة يوضع فيها السمن - التي يوضع فيها السمن وليسَ فيها شيءٌ، فنشقها ونلعقُ ما علِق بداخلها...
* * *
- لم يَطل مُكث - الإقامة - جعفرِ بن أبي طالبٍ في المدينة.
ففي أوائلِ السنةِ الثامنةِ للهجرةِ جهز الرسول صلوات الله وسلامه عليه جَيشاً لمنازلة الرّومِ في بلاد الشامِ، وأمر على الجيشِ زيدَ بن حارِثة وقال: إن قتل زيدٌ أو أصيبَ فالأميرُ جَعفرُ بن أبي طالبٍ، فإن قتلَ جعفرٌ أو أصيب فالأميرُ عبد الله بن رواحة, فإن قتل عبد الله بن رواحة أو أصيب فليخترِ المسلمون لأنفسهم أميراً منهم.
فلما وصلَ المسلمون إلى " مُؤتة " وهي قريةٌ واقعةٌ على مشارفِ الشامِ في الأردن؛ وجدوا أن الرومَ قد أعدوا لهم مائة ألفٍ تظاهرُهم - تساندهم وتدعمهم - مائة ألفٍ أخرى من نصارى العرب من قبائلِ لخمٍ وجُذامٍ وقضاعة وغيرها.
أما جيشُ المسلمون فكان ثلاثة آلاف...
وما إن التقى الجمعانِ ودارَت رحى المعركةِ حتى خرَّ زيدُ بن حارِثة صريعاً مُقبلاً غير مُدبرٍ.
فما أسرع أن وثبَ جعفرُ بن أبي طالبٍ عن ظهرِ فرسٍ كانت له شقراء، ثم عقرها - ضرب قوائمها بسيفه - بسَيفه حتى لا ينتفع بها الأعداءُ من بعده.
وحَمل الرايَة وأوغلَ - دخل بعيداً - في صفوف الروم وهو يُنشدُ:
يا حَبّذا الجنة واقترابُها طيبةٌ وباردٌ شرابُها
والرومُ رومٌ قد دَنا عذابها كافِرةٌ بعيدة أنسابُها
عَليَّ إذا لاقيتها ضِرابُها
وظلَّ يجول في صفوفِ الأعداءِ بسيفِه ويصولُ حتى أصابتهُ ضربةٌ قطعَت يمينَه، فأخذ الراية بشمالِه، فما لبث أن أصابتهُ أخرى قطعت شِماله، فأخذ الراية بصَدرِه وعَضُديه، فما لبث أن أصابتهُ ثالثةٌ شطرتهُ شطريـنِ - قسمته نصفين -، فأخذ الرَّاية منهُ عبد الله بنُ روَاحَه فما زال يقاتلُ حتى لحق بصَاحبيه.
* * *
- بَلغ الرسول صلوات الله عليه مصرع قوادِه الثلاثة فحزِن عليهم أشدَّ الحزن وأمَضه - أوجعه - وانطلق إلى بيتِ ابن عمِّه جعفرِ بن أبي طالبٍ، فألفى - وجد - زوجته أسماءَ تتأهبُ لاستقبالِ زوجها الغائِب.
فهيَ قد عَجنت عجينها، وغسَلت بنيها ودهنتهم وألبَستهم....
قالت أسماءُ: فلما أقبلَ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيتُ غلالةً - ثوب رقيق شفاف - من الحُزن تُوشح - تغطي - وجهه الكريمَ، فسَرَت ِالمخاوفُ في نفسي، غير أني لم أشأ أن أسألهُ عن جعفرٍ مخاوفه أن أسمَعَ منه ما أكرهُ.
فحيَّا وقال: " ائتني بأولادِ جعفرٍ. فدعوتهم له ".
فهبوا نحوهُ فرِحين مُزغردين، وأخذوا يتزاحمون عليه، كل يريدُ أن يَستأثر به.
فأكبَّ عليهم، وجعل يتشمَّمُهم، وعيناه تذرِفان من الدمع.
فقلت: يا رسولَ الله - بأبي أنت وأمِّي - ما يُبكيك؟! أبلغك عن جعفر وصاحبيه شيء؟! قال:
( نعم.... لقد استشهدوا هذا اليوم..)
عند ذلك غاضتِ البَسمة من وجوه الصغار لما سمعوا أمهُم تبكي وتنشِج، وجَمدوا في أماكنهم كأن على رؤوسهم الطيرَ - مثل يضرب لشدة السكون -.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى وهو يكفكِفُ - يمسح دموعه - عبراته ويقول:
( اللهُمَّ اخلفْ جعفراً في وَلدِه.... اللهم اخلف جعفراً في أهلِه...)
ثم قال:( لقد رأيتُ جعفراً في الجنة، له جناحان مُضرَّجان بالدماء، وهو مَصبوغ القوادم ).