اللحالي
01-31-2015, 05:45 PM
" عمير بن سعد نسيج وحده "
[ عمر بن الخطاب ]
تجرَّع الغلامُ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ الأنصاري كأس اليتم والفاقة منذُ نعومَةِ أظفاره.
فقد مَضَى أبوه إلى ربِّه دونَ أن يترُكَ له، مالاً أوْ مُعيلاً.
لكنَّ أمَّه ما لَبِثَتْ أنْ تَزَوَّجتْ من ثَرِيٍّ من أثرياء "الأوس" ، ويُدْعَى الجُلاسَ بنَ سُويَدٍ ، فَكَفَلَ ابنَها عُمَيْراً، وضَمَّه إليه.
وقد لقي عُمَيْرٌ من برِّ الجُلاس وحُسْنِ رِعايته وجميلِ عَطْفِه ما جَعَله يَنْسَى أنّه يتيم.
فأحـبَّ عميرٌ الجُلاسِ حُبَّ الابنِ لأبيه،؟ أولع الجُلاسُ بِعُمَيْر وَلَعَ الوالد بولده.
وكان كلما نما عُمَيْرٌ وشبَّ، يَزْدَادُ الجُلاسُ له حبّاً وبه إعجاباً لما كان يَرَى فيه من أمارات الفِطْنَةِ والنَّجابَةِ التي تبدو في كُلِّ عملِ من أعماله، وشمائلِ الأمانَةِ والصِّدْقِ التى تَظْهَرُ في كلِّ تَصرُّف من تَصَرُّفاته.
وقد أسلم الفتى عميرُ بنُ سعدٍ ، وهو صغيرٌ لم يُجَاوِزِ العاشِرَةَ من عُمُرِه إلا قليلاً، فَوَجَدَ الإيمانُ في قَلْبِهِ الغَضِّ مكاناً خالياً فَتَمَكَّن منه، وألفى الإسلامُ في نفسِه الصَّافِيَةِ الشَّفَّافَةِ تربة خصبة فَتَغلْغَلَ في ثناياها؟ فكان على حَدَاثَة سنِّه لا يتأخَّرُ عن صلاةٍ خلفَ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم ، وكانت أن تَغْمُرُها الفَرْحَةُ كُلَّما رأيته ذاهباً إلى المسجدِ أو آيباً منه، تارَةً مع زوجها وتارةً وحدَه.
***
وسـارَت حياةُ الغلام عمير بنِ سعدٍ على هذا النحو هانئةً وادعةً لا يعكِّرُ صَفْوَها مُعَكِّر، ولا يُكدِّرُ هنَاءَتَها مكَدِّر، حتى شاء اللّه أنْ يعرضَ الغُلام اليافِعَ لتَجْرِبَةٍ من أشدِّ التجاربِ عُنْفاً وأقساها قَسْوَةً، وأنْ يَمْتَحِنَه امتحاناً قَلَّما مَرَّ بِمثْلِه فتًى في سنِّه.
ففي السنةِ التاسعةِ للهِجْرَةِ أعلن الرسولُ صلى اللّهِ وسلامُه عليه عَزْمَه على غَزْوِ الرّومَ في تَبُوك، وأمَرَ المسلمين بأنْ يَسْتَعِدُّوا ويَتَجَهُّزوا لذلك.
وكان عليه الصلاةُ والسلامُ إذا أراد أنْ يغزوَ غَزْوَةً لم يصرِّح بها، وأوْهَمَ أنه يُريدُ جِهَةً غَيْرَ الجهةِ التي يَقْصِد إليها، إلا في غزوةِ تَبُوك، فإنَّه بَينَّهَا للناس، لِبُعْدِ الشقَّة، وعِظَم المَشَقَّةِ، وقُوةِ العدوِّ؛ ليكونَ الناس على بَينةٍ من أمرِهم، فيأخذوا للأمر أهْبَتَه ويُعِدُّوا له عُدَّته. وعلى الرغم من أنَّ الصيفَ كان قد دخل، والحرَّ قد اشتَدَّ، والثمارَ قد أْينَعَتْ، والظلالَ قد طابت، والنفوسَ قد رَكَنَتْ إلى التَّراخي والتَّكاسُلِ؛ على الرغم من ذلك كلِّه فقد لبَّى المسلمون دَعوَةَ نبيِّهم عليه الصلاة والسلام وأخذوا يَتَجَهَّزون ويَستَعِدُّون.
غيرَ أنَّ طائفةً من المنافقين أخذوا يُثَبطونَ العَزَائِمَ، ويُوهِنون الِهمَمَ ، ويُثيرون الشُّكوكَ، ويَغمِزون الرسولَ صلواتُ اللّه وسلامُه عليه، ويُطلقون في مَجالِسِهمِ الخاصةِ من الكلماتِ ما يَدْمَغُهُم بالكُفْرِ دَمْغاً .
وفي يومٍ من هذه الأيَّام التي سَبَقَت رحيل الجَيْشِ، عادَ الغلامُ عُمَيْرُ بنُ سَعدٍ إلى بَيْتِه بَعْدَ أداءِ الصلاةِ في المَسجِدِ وقد امتلأت نَفْسُه بطائفة مُشْرِقَةٍ من صُوَر بَذْلِ المسلمين وتَضحِيَتِهِم رَآها بِعَيْنَيه، وسَمِعَها بأذُنَيه.
فقد رأَى نسـاءَ المُهاجِرِين والأنْصارِ يُقْبِلْنَ على رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْزَعْنَ حُلِيَّهنَّ ويُلْقِينَه بَيْنَ يَدَيْهِ لِيُجَهِّزَ بِثَمَنِه الجَيشَ الغازِيَ في سبيل اللّه.
وأبصرَ بعَيْنَيْ رأسِه عثمانَ بنَ عَفَّان يأتي بِجِراب فيه ألْفُ دينارٍ ذَهَباً، ويقدِّمُه للنبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ.
وشَهِدَ عبدَ الرحمن بنَ عَوف يَحْمِلُ على عاتِقِه مائتي أوقِيَّةٍ من الذَّهَبِ ويُلْقِيْها بين يَدَي النبيِّ الكريم.
بل إنَّه رأى رجلاً يَعْرِضُ فِراشَه للبَيْع لِيَشْتَرِيَ بِثَمَنِه سَيفاً يُقاتلُ به في سبيلِ اللّه.
فَأخَذَ عُمَيْرٌ يَسْتَعيدُ هذه الصُّوَرَ الفَذَّةَ الرائِعَةَ، ويَعْجَبُ من تباطُؤ الجُلاس عن الاسْتِعْدادِ للرَّحيلِ مع الرسولِ صلواتُ اللّه وسلامه عليه، والتأخّرِ عن البَذْل على الرغم من قدرته ويَسَاره .
وكأنَّما أرادَ عُمَيْرٌ أنْ يَسْتَثيرَ هِمَّةَ الجُلاسِ ويَبْعَثَ الحَمِيَّةَ في نَفْسِه بم فاخَذَ يَقُصُّ عليه أخبارَ ما سَمِعَ ورأى وخاصَّةً خَبَرَ أولئك النَّفَرِ من المؤمنين الذين قَدِموا على رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم ، وسألوه في لَوْعَةٍ أنْ يَضُمَّهُمْ إلى الجيش الغازي في سبيل اللّهِ فَرَدَّهم النبيُّ لأنَّه لم يَجِدْ عِنْدَه من الرَّكائبِ ما يَحْمِلُهم عليه، فَتوَلَّوا وأعيُنُهُمْ تفيضُ من الدَّمْع حَزَناً ألاَّ يَجِدوا ما يُبلِّغُهُمْ أمْنِيَتّهَمْ في الجهاد، ويُحقِّقُ لهم أشواقَهُمْ إلى الاستِشْهادِ.
لكنَّ الجُلاسَ ما كادَ يَسْمَعُ من عُمَيْرٍ ما سَمِعَ حَتَّى انطلقت من فَمِه كلمة أطارتْ صوَابَ الفَتَى المؤمِن.
إذْ سَمِعَهُ يقول: "إنْ كان محمدٌ صادقاً فيما يَدَّعيه من النُبوَّةِ فَنَحْن شَر من الحَميِرِ".
***
لقد شُدِه عُمَيرٌ مِمَّا سَمِعَ؟ فما كان يَظُنُّ أنَّ رجلاً له عقل الجُلاسِ وسِنُّه تَنِدُّ من فَمِهِ مثلُ هذه الكلمةِ التي تُخْرِجُ صاحبها من الإيمان دفعةً، واحدةً وتُدْخِلُه في الكفرِ من أوْسَع أبوابه.
وكما تَنْطلقُ الآلاتُ الحاسِبَةُ الدقيقةُ في حِسابِ ما يُلْقَى إليها من المسائل، انطلق عَقْلُ الفَتَى عُمَيْرِ بنِ سعدٍ يُفَكِّر فيما يجب عليه أن يصنعه.
لقد رأى أنَّ في السكوتِ عن الجُلاسِ والتَّسَتُّرِ عليه خيانةً للّهِ ورسولِه، وإضراراً بالإسلام الذي يَكيدُ له المنافقون ويأتمرون به .
وأنَّ في إذاعةِ ما سَمِعَـه عقوقاً بالرَّجُلِ الذي يَنْزِلُ من نَفْسِـه منْزِلَةَ الوالد، ومجازاةً لإحسانه إليه بالإساءةِ؛ فهو الذي آواه من يُتْم وأغْنَاهُ من فقر وعوّضه عن فَقْدِ أبيه.
وكان على الفتى أنْ يَخْتَارَ بَيْنَ أمْرَيْنِ أحْلاهُما مُرٌّ . وسرعان ما اختارَ...
فالتفتَ إلى الجُلاسِ وقال: واللّه يا جُلاسُ ما كانَ على ظَهْرِ الأرضِ أحدٌ بعْدَ محمد بنِ عبدِ للّه أحَبَّ إليَّ مِنْكَ.
فأنت آثرُ الناس عندي، وأجلُّهم يداً علَّي، ولقد قُلْتَ مَقَالةً إن ذَكَرْتُها فَضَحْتُكَ، وإنْ أخْفَيتُها خُنْتُ أمانتي وأهْلكْتُ نفسي وديني، وقد عزمتُ على أنْ أمْضِيَ إلى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وأخْبِرَه بما قلت، فكن على بَيَنّةَ من أمرك.
***
مضى الفتى عميرُ بنُ سعدٍ إلى المسجدِ، وأخبرَ النبيَّ عليه الصلاةُ والسلامُ بما سَمِعَ من الجُلاسِ بن سُوَيْدٍ .
فاسْتَبْقاه الرسولُ صلواتُ اللّه عليه عنْدَه، وأرسلَ أحَد أصحابِه ليَدْعُوَ له الجُلاسَ.
وما هو إلا قليل حَتَّى جاءَ الجُلاسُ فَحَيّا رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم ، وجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْه، فقال له النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ:
(ما مَقالة سَمِعَها مِنْكَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ ؟!) وذَكَرَ لَهُ ما قَالَهُ.
فقال: كَذَبَ علَّي يا رسولَ اللّه وافْتَرَى، فما تَفَوَّهْتُ بِشيءٍ من ذلك.
وأخَذَ الصَّحَـابَةُ يُنَقِّلون أبصارَهم بين الجُلاسِ وفَتَاه عُمَيْرِ بن سَعْدٍ كأنهم يريدون أن يَقْرَؤوا على صَفْحَتَي وَجْهَيْهما ما يُكِنّه صدراهما.
وجعلوا يَتَهامَسون: فقال واحِدٌ من الذين في قلوبِهم مَرَضٌ: فتًى عاق أبى إلا أنْ يُسِيءَ لِمَنْ أحسَنَ إليه.
وقال آخرون: بَل إنَّه غلام نَشَأ في طاعةِ اللّه، وإنَّ قَسَمَات وَجْهِه لَتَنْطِقُ بِصِدْقِه.
والتَفَتَ الرَّسولُ صلواتُ اللّهِ عليه إلى عمَيْرٍ فَرَأى وَجْهَهُ قد احتَقَنَ بالدَّمِ، والدُّموعُ تَتَحَدَّرُ مِدْراراً مِنْ عَيْنًيه، فتتساقَطُ على خَدَّهِ وصَدْرِه وهو يقول:
اللَّهُمَّ أنزِلْ على نَبيِّكَ بَيَانَ ما تَكلَّمْتُ به...
اللَّهُمَّ أنزِلْ على نَبيِّكَ بَيَانَ ما تَكلَّمْتُ به...
فانْبَرَى الجُلاسُ وقال: إنَّ ما ذكرتُه لك يا رسول اللّهِ هو الحقُّ، وإن شِئْتَ تحالَفنا بَيْنَ يديك.
وإني أحْلِفُ باللّه أني ما قلتُ شَيئاً مِمَّا نَقَلَه لك عُمَيْر.
فما إنْ انتهى من حَلِفهِ وأخَذَتْ عيونً الناسِ تَنْتَقِلُ عنه إلى عمير بنِ سعدٍ حتى غَشِيَتْ رسولَ اللّهِ صـلواتُ اللّه وسلامُه عليه السكينةُ، فعرَفَ الصحابةُ أنهُ الوَحيُ، فَلَزِموا أماكِنَهم وسَكَنَتْ جوارحُهم ولاذوا بالصَّمتِ وتَعَلَّقَتْ أبصارُهم بالنبيِّ عليه الصلاة والسلام.
وهنا ظَهَرَ الخَوفُ والوَجلُ على الجُلاس، وبَدَا التَّلَهُّفُ والتَّشَـوُّفُ على عُمَيْرٍ . وظَلَّ الجميعْ كذلك حَتَّى سُرِّي عن رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَتَلا قولَه جَلَّ وعَزَّ: { يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا ولَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِم } إلى قوله تعالى: { فإنْ يَتُوبوا يَكُ خيراً لهم وإنْ يَتَولَّوا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أليماً }.
فارتَعَدَ الجُلاسُ من هَوْلِ ما سَمِعَ، وكادَ يَنْعَقِدُ لِسَانُه من الجزع، ثُمَّ التَفَتَ إلى رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وقال: بل أتوبُ يا رسولَ الله ... بل أتوب...
صدق عميرٌ - يا رسول اللّه- كنتُ من الكاذبين.
اسْألِ اللّهَ أن يَقْبَلَ تَوْبَتِي، جُعِلْتُ فِدَاكَ يا رسولَ اللّهِ.
وهنا تَوجَّه الرسولُ صلواتُ اللّهِ عليه إلى الفتى عمير بنِ سعدٍ ، فإذا دُمُوعُ الفَرَح تُبَلِّلُ وَجْهَهُ المشرِقَ بنورِ الإيمانَ.
فمدَّ الرسولُ يَدَه الشريفةَ إلى أذنه وأمسكَها بِرِفْق وقال: (وَفَّت أذُنُكَ- يا غلامً- ماسَمِعَتْ، وصَدَّقَكَ رَبُّك).
عاد الجُلاسُ إلى حَظِيرَةِ الإسلامِ وحَسُنَ إسلامُه.
وقد عَرَفَ الصحابةُ صلاحَ حالِه مِمَّا كان يُغْدِقه على عميرٍ من بِرٍّ . وقد كان يقولُ كُلَّما ذُكِرَ عمير: جزاه اللّه عَنِّى خيراً، فقد أنقذقني من الكُفْرِ، وأعتَقَ رَقَبَتي من النار.
وبَعْدُ فليست هذهِ أوضأ صورةٍ في حياةِ الغلامِ الصَّحابيِّ عُمَيرِ بنِ سَعْدٍ ، ولا أشدَّها تَألقا.
وإنَّما في حَيَاتِه من الصُّورِ ما هو أزْهَى وأجْمَلُ.
فإلى لقاءٍ آخرَ مَعَ عُميرِ بنِ سعدٍ في شبابه (*)
***
" لكم وددت أن لي رجالاً مثل
عمير بن سعد لأستعين بهم في أعمال المسلمين ".
[ عمر بن الخطاب ]
وَقَفْنَا آنِفاً على صورة فذَّةِ وَضيئَةٍ من حياةِ الصحابيّ الجليلِ عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ في صِغَرِه، فَتَعالَوا نَقِف الآن على عورة رائعة مشرقةٍ صِتْ حَيَاتِه في كِبَرِه، وسَتَجِدون أن الصورةَ الثانيةَ لن تقل عن الأولى جلالا وبهاءً.
***
كان أهلُ "حِمْصَ " شديدي التذَمّرِ مِنْ وُلاتهم، كثيري الشَّكْوى منهم، فما جاءهم من وال إلا وجدوا فيه عيوباً، وأحْصَوْا له ذُنُوباَ، و رَفَعوا أمْرَه إلى خليفةِ المسلمين، وتَمَنَّوا عليه أن يُبْدِلَهُمْ به من هو خيرٌ منه.
فَعزَمَ الفاروقُ رِضْوانُ اللّهِ عليه أن يَبْعَثَ إليهم بوالٍ لا يجدون فيه مَطْعناً ولا يَرَوْنَ في سيرَتِه مَغْمَزاً .
فَنَثَرَ كِنَانَةَ رجاله بَيْنَ يَدَيْه، وعَجَمَ عِيدانها عوداً عوداً، فلم يجد خيراً من عُمَيْرِ بن سعدِ.
وعلى الرَّغمِ مِنْ أنَّ عُمَيْراً كان إذ ذاك يَضْرِبُ في أرضِ الجزيرَة مز، بلاد الشَّـامِ على رَأسِ جَيْشِه الغازي في سبيل اللّهِ، فَيُحرِّرُ المُدُنَ وَيَدُكُّ المعاقلَ ، ويُخْضِعُ القبائِلَ، ويُمغُ المساجِدَ في كلِّ أرْض وَطِئَتْها قَدَمَاه.
على الرَّغْمِ مِن ذلك فقد دعاه أميرُ المؤمنين وعَهِدَ إليه بولايةِ"حمص "، وأمَرَه بالتَّوَجُّهِ إليها، فاذْعَنَ للأمْرِ على كُرْهٍ مِنْه لأنه كانَ لا يًؤثِرُ شيئاً على الجهاد في سبيلِ اللّهِ.
***
بَلَغ عُمَيْرٌ "حِمْصَ " فدعا النَّاسَ إلى صلاةٍ جامِعَةٍ .
ولما قُضِيَتِ الصَّلاةُ خَطَبَ النَّاسَ، فَحِمَدَ اللّهَ وأثنَى عليه، وصلى على نَبِيِّه محمد ثم قال:
" أيها الناسُ، إنَّ الإسْلامَ حِصنٌ مَنِيعٌ وباث وَثِيقٌ ، وحِصْنُ الإسلامِ العَدْلُ وبابُه الحَقُّ.
فإذا دُكَّ الحِصْنُ وحُطِّمَ البابُ اسْتُبيحَ حِمَى هذا الدِّينِ.
وإنَّ الإسْلامَ ما يزالُ مَنيعاً ما اشْتَدَّ السُّلْطان.
ولَيْسَتْ شِدَّةُ السُّلطانِ ضرباً بالسَّوْط ولا خَملاً بالسَّيفِ ولكِنْ قَضَاءً بالعَدْلَ وأخْذاً بالحَقِّ ".
ثم انْصرَفَ إلى عَمَلِه لِيُنَفِّذَ ما اختطه لهم من دستور في خطبته القصيرَةِ.
***
قَضَى عُمَيْرُ بن لسَعْدٍ حَوْلاً كامِلاً في "حِمْصَ " لم يَكْتُبْ خِلاله لأمير المؤمنين كِتاباً، ولمْ يَبْعَثْ إلى بيتِ مالِ المُسْلمينَ من الفَيءِ دِرْهماً ولا ديناراً، فأخَذَتِ الشُّكُوكُ تساور عُمَرَ إذْ كانَ شديدَ الخَشْيَةِ على وُلاتِه من فِتْنَةِ الإمارَة، فلا مَعْصومَ عِنْدَهُ غَيْرُ رسولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم .
فقال لِكَـاتِبِه: اكْتُبْ إلى عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ وقُلْ له: إذا جاءَكَ كِتابُ أمِيرِ المؤمنين فَدَع حِمْصَ وأقْبِلْ عليه، واحْمِلْ مَعَكَ ما جَبَيْتَ مِنْ فَيءِ المسلمين.
***
تلقَّى عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ كتاب عُمَرَ رضى اللّه عنـه وعن عمير، فأخَذَ جِرَابَ زاده وَحَمَلَ على عاتِقِه قَصعَتَه ووعاءَ وضوئه، وأمْسَك، بيده حَرْبَتَه، وخَلَّف حِمْصَ وإمارتها وراءه، وانْطَلَقَ يَحُثُّ الخطا- مشياً على قَدَمَيه- إلى المدينة.
فما كادَ يَبْلُغ عمَيرٌ المدينةَ حتى كان قد شحَبَ لونُه، وهزُل جِسْمُه وطال شَعْرُه، وظَهَرَتْ عليه وعَثْاءُ السَّفَرِ.
***
دَخَلَ عُمَيْرٌ على أميرِ المؤمنين عُمَرَ بنِ الخَطابِ، فَدُهِشَ الفاروق من حالَتِه وقال:
ما بكَ يا عُمَيْر؟!
فقال: ما بي من شيءٍ – يا أمير المؤمنين- فأنا صَحيحٌ مُعافًى- بحمد اللّه- أحْمِلُ معي الدنيا كُلَّها وأجُرُّها من قَرْنَيْها.
فقال: وما معك من الدنيا؟ (وهو يَظُنُّ أنَه يحْمِلُ مالاً لِبـيْتِ مالِ المُسْلِمين) .
فقال: معي جِرابي وقد وضعت فيه زادي.
ومعي قصعتي آكلُ فيها وأغْسِلُ عليها رَأسي وثيابي.
ومعي قِربَة لِوُضوئي وشرابي.
ثم إنَّ الدنيا كُلَّها- يا أميرَ المؤمنين- تَبَعٌ لمتاعي هذا، وفُضلةٌ لا حاجَةَ لي ولا لأحد غيري فيها.
فقال عمر: وهل جئت ماشياً؟!
قال: نعم يا أمير المؤمنين.
فقال: أما اُعطيتَ من الإمارة دابَّةً تركَبُها؟
فقال: هم لم يعطوني، وأنا لم أطلب منهم.
فقال: وأينَ ما أتُيْتَ بهِ لِبَيْتِ المالِ؟
فقال: لم آتِ بِشيءٍ .
فقال: ولم؟!
فقال: لما وَصَلْتُ إلى حِمْصَ؟ جَمعْتُ صلحاء أهلها، ووليتم جمْعَ فَيْئهم، فكانوا كُلما جمعوا شيئاً منه؟ استشَرْتُهم في أمره، ووضعته في مواضعه، وأنفقتُه على المُستَحِقِّين منهم.
فقال عمر لكاتبه: جَدِّد عهداً لِعُمَير على وِلايةِ حِمْص.
فقال عمير: هيهات ... فإن ذلك شَيء لا أريده، ولَن أعْمَلَ لَكَ ولا لأحدٍ بَعْدَكَ يا أميرَ المؤمنين.
ثم استأذَنَهُ بالذَّهاب إلى قَرْيَةٍ في ضواحي المدينَةِ يُقيم بِها أهْلُه، فأذنَ له.
***
لم يَمْضِ على ذهاب عُمَيْرٍ إلى قَرْيَته وقتٌ طويل حتى أراد عُمَرُ أنْ يَختَبِرَ صاحبه، وأن يَسْتَوثقَ من أمْرِه؟ فقال لواحدٍ من ثِقَاتِه يدعى الحارثَ:
انطلق يا حارثُ إلى عُمَيْرِ بنِ سعد، وانْزِل به كأنّكَ ضَيْف، فإن رَأيتَ عليه آثارَ نِعْمَةٍ ؟ فَعدْ كما أتيت.
وإن وَجدْتَ حالاً شديدَةً فأعطِه هذه الدنانير، وناوَله صُرِّة فيها مائة دينارٍ .
***
انطلق الحارثُ حتى بلغ قريةَ عُمَيْرِ بن سَعْدٍ ، فَسَأل عنه فَدُلَّ عليه.
فلمَّا لقيه قال: السلامُ عليك ورحمة الله.
فقال: وعليك السلامُ ورحمةُ اللّه وبرَكاته، من أين قَدمت؟
فقال: من المدينة.
فقال: كيفَ تَرَكتَ المسلمين؟
فقال: بِخَيْر.
فقال: كيف أميرُ المؤمِنين؟
فقال: صَحِيح صالِحٌ .
فقال: أليس يُقيمُ الحدود؟!
قال: بلى، ولَقَدْ ضَرَبَ ابناً له لِفاحِشَةٍ أتاها، فَماتَ من الضَّرب.
فقال: اللَّهمَّ أعِنْ عُمَرَ، فإني لا أعْلَمُه إلا شديدَ الحُبِّ لك.
***
أقام الحارِثُ في ضيافَةِ عُمَيْرِ بنِ سعدٍ ثلاثَ لَيال، فكانَ يُخْرِجُ له في كلِّ لَيْلَةٍ قُرْصاً من الشعير.
فَلَمَّا كانَ اليومُ الثالِثُ، قال للحارِثِ رَجُل من القوم: لقد أجْهَدْتَ عُمَيْراً وأهله؟ فَلَيْسَ لهم إلا هذا القُرْصُ الذي يُؤثِرونك به على أنفُسِهِمْ، وقد أضرَّ بهمُ الجوعُ والجَهْدُ، فإنْ رأيت أن تتحوَّلَ عَنْهُم إليَّ فافْعَلْ.
***
عند ذلكَ أخرَجَ الحارِثُ الدَّنانيَر، ودَفَعها إلى عمَيْر.
فقال عُمَيْر: ما هذه ؟!!
فقال الحارِثُ: بَعَثَ بِها إليكَ أميرُ المؤمنين.
فقال: رُدَّها إليه، واقْرَأ عليه السَّلامَ، وقُل له: لا حاجَةَ لِعُمَيْرٍ بها.
فصاحَتْ امرأته- وكانَتْ تَسْمَعُ ما يدور بينَ زَوجِها وضيفِه- وقالت: خُذْها- يا عُمَيْرُ- فإن احتَجْتَ إليها أنفقتَها، وإلا وضعْتَها في مَوَاضِعِها، فالمحتَاجُون هنا كثير.
فلما سَمِعَ الحارِث قَوْلَها؟ ألْقَى الدَّنانيرَ بَيْنَ يَدَيْ عُمَيْر وانْصرَف، فأخَذَها عمير وجَعَلَها في صُرَرٍ صغيرةٍ ولم يَبِتْ لَيْلَتَه تِلْكَ إلا بَعْدَ أن وزَّعها بَيْنَ ذوِي الحاجاتِ، وخَصَّ مِنْهُمْ أبناءَ الشُّهداءِ.
***
عاد الحارِثُ إلى المدينةِ فقال له عمرُ: ما رأيتَ يا حارِثُ؟
فقال: حالاً شديدَةً يا أميرَ المؤمنين.
فقال: أدَفَعْتَ إليه الدنانير؟
فقال: نعم، يا أمير المؤمنين.
فقال: وما صَنَعَ بها؟!
فقال: لا أدْرِي، وما أظُنّه يُبْقى لنَفِسه مِنْها دِرهماً واحداً.
فكَتَبَ الفاروقُ إلى عُمَيْرٍ يقول: إذا جاءَكَ كتابي هذا فلا تَضَعْهُ من يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ علَّى.
***
توجَّه عميرُ بنُ سَعْدٍ إلى المدينة، ودَخَلَ على أميرِ المؤمنين، فَحَيَّاه عُمَرُ ورحَّبَ به وأدنى مَجْلِسَهُ ثم قال له:
ما صَنَعْتَ بالدنانير يا عُمَير؟!
فقال: وما عليكَ مِنْها يا عُمَرُ بعد أنْ خَرَجتَ لي عنها؟!!
فقال: عَزَمْتُ عليك أنْ تُخْبِرَني بما صَنَعْتَ بها؟
فقال: ادَّخَرْتُها لِنَفْسي لأنتَفِعَ بها في يَوم لا يَنفَعُ فيه مالٌ ولا بَنون...
فَدَمَعَتْ عينا عُمَرَ، وقال:
أشْهَدُ انَكَ من الذين يؤثرون على أنفُسِهم ولو كان بهم خصاصة ثم أمرَ له بِوَسق من طعام وثَوبين.
فقال: أمَّا الطعامُ فلا حاجَةَ لَنَا بهِ يا أميرَ المؤمنين، فَقَدْ تَرَكْتُ عندَ أهْلي صَاعَينِ من شَعيرٍ ، وإلى أنْ نأكُلهما يكون اللّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- قد جاءنا بالرزْقِ.
وأمَّا الثَّوْبان فآخُذُهما لأمِّ فُلانٍ (يعني زوجَتَه)، فقد بَلِىَ ثَوْبُها وكادَتْ تَعْرَى.
***
لم يمضِ طويلُ وَقتٍ على ذلك اللِّقاءِ بينَ الفاروقِ وصاحبِه حَتَّى أذِنَ اللّه لِعُمَيْرِ بن سعدٍ بأن يَلْحَقَ بِنَبِيِّه وقُرَّةِ عَيْنه محمدِ بنِ عبدِ اللّه بعد أن طالت أشْواقُه إلى لِقائِه.
فَمَضَى عميرٌ في طريق الاَخرةِ وادِعَ النَّفْسِ، واثِقَ الخَطو، لا يُثْقِلُ كاهِلَهُ شَيء من أحمالِ الدُّنْيا، ولا يؤودُ ظَهْرَه عِبء من أثْقَالها.
مَضَى لَيْسَ معه إلا نورُه وهداه، وَوَرَعُه وتقاه ...
فلما بلغ الفاروقَ نَعْيُهُ وَشَّحَ الحُزْنُ وَجهه، واعتَصرَ الأسى فؤاده وقال:
" وَدِدْتُ أنَّ لي رجالاً مِثْلَ عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ أسْتَعينُ بهم في أعمالِ المسلمين ".
***
رضى اللّه عن عمير بن سعدِ وأرضاه...
فقد كان نمطاً فريداً بينَ الرِّجال...
وتلميذاً مُتَفَوقاً في مدرسةِ محمدِ بن عبد اللّه...
[ عمر بن الخطاب ]
تجرَّع الغلامُ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ الأنصاري كأس اليتم والفاقة منذُ نعومَةِ أظفاره.
فقد مَضَى أبوه إلى ربِّه دونَ أن يترُكَ له، مالاً أوْ مُعيلاً.
لكنَّ أمَّه ما لَبِثَتْ أنْ تَزَوَّجتْ من ثَرِيٍّ من أثرياء "الأوس" ، ويُدْعَى الجُلاسَ بنَ سُويَدٍ ، فَكَفَلَ ابنَها عُمَيْراً، وضَمَّه إليه.
وقد لقي عُمَيْرٌ من برِّ الجُلاس وحُسْنِ رِعايته وجميلِ عَطْفِه ما جَعَله يَنْسَى أنّه يتيم.
فأحـبَّ عميرٌ الجُلاسِ حُبَّ الابنِ لأبيه،؟ أولع الجُلاسُ بِعُمَيْر وَلَعَ الوالد بولده.
وكان كلما نما عُمَيْرٌ وشبَّ، يَزْدَادُ الجُلاسُ له حبّاً وبه إعجاباً لما كان يَرَى فيه من أمارات الفِطْنَةِ والنَّجابَةِ التي تبدو في كُلِّ عملِ من أعماله، وشمائلِ الأمانَةِ والصِّدْقِ التى تَظْهَرُ في كلِّ تَصرُّف من تَصَرُّفاته.
وقد أسلم الفتى عميرُ بنُ سعدٍ ، وهو صغيرٌ لم يُجَاوِزِ العاشِرَةَ من عُمُرِه إلا قليلاً، فَوَجَدَ الإيمانُ في قَلْبِهِ الغَضِّ مكاناً خالياً فَتَمَكَّن منه، وألفى الإسلامُ في نفسِه الصَّافِيَةِ الشَّفَّافَةِ تربة خصبة فَتَغلْغَلَ في ثناياها؟ فكان على حَدَاثَة سنِّه لا يتأخَّرُ عن صلاةٍ خلفَ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم ، وكانت أن تَغْمُرُها الفَرْحَةُ كُلَّما رأيته ذاهباً إلى المسجدِ أو آيباً منه، تارَةً مع زوجها وتارةً وحدَه.
***
وسـارَت حياةُ الغلام عمير بنِ سعدٍ على هذا النحو هانئةً وادعةً لا يعكِّرُ صَفْوَها مُعَكِّر، ولا يُكدِّرُ هنَاءَتَها مكَدِّر، حتى شاء اللّه أنْ يعرضَ الغُلام اليافِعَ لتَجْرِبَةٍ من أشدِّ التجاربِ عُنْفاً وأقساها قَسْوَةً، وأنْ يَمْتَحِنَه امتحاناً قَلَّما مَرَّ بِمثْلِه فتًى في سنِّه.
ففي السنةِ التاسعةِ للهِجْرَةِ أعلن الرسولُ صلى اللّهِ وسلامُه عليه عَزْمَه على غَزْوِ الرّومَ في تَبُوك، وأمَرَ المسلمين بأنْ يَسْتَعِدُّوا ويَتَجَهُّزوا لذلك.
وكان عليه الصلاةُ والسلامُ إذا أراد أنْ يغزوَ غَزْوَةً لم يصرِّح بها، وأوْهَمَ أنه يُريدُ جِهَةً غَيْرَ الجهةِ التي يَقْصِد إليها، إلا في غزوةِ تَبُوك، فإنَّه بَينَّهَا للناس، لِبُعْدِ الشقَّة، وعِظَم المَشَقَّةِ، وقُوةِ العدوِّ؛ ليكونَ الناس على بَينةٍ من أمرِهم، فيأخذوا للأمر أهْبَتَه ويُعِدُّوا له عُدَّته. وعلى الرغم من أنَّ الصيفَ كان قد دخل، والحرَّ قد اشتَدَّ، والثمارَ قد أْينَعَتْ، والظلالَ قد طابت، والنفوسَ قد رَكَنَتْ إلى التَّراخي والتَّكاسُلِ؛ على الرغم من ذلك كلِّه فقد لبَّى المسلمون دَعوَةَ نبيِّهم عليه الصلاة والسلام وأخذوا يَتَجَهَّزون ويَستَعِدُّون.
غيرَ أنَّ طائفةً من المنافقين أخذوا يُثَبطونَ العَزَائِمَ، ويُوهِنون الِهمَمَ ، ويُثيرون الشُّكوكَ، ويَغمِزون الرسولَ صلواتُ اللّه وسلامُه عليه، ويُطلقون في مَجالِسِهمِ الخاصةِ من الكلماتِ ما يَدْمَغُهُم بالكُفْرِ دَمْغاً .
وفي يومٍ من هذه الأيَّام التي سَبَقَت رحيل الجَيْشِ، عادَ الغلامُ عُمَيْرُ بنُ سَعدٍ إلى بَيْتِه بَعْدَ أداءِ الصلاةِ في المَسجِدِ وقد امتلأت نَفْسُه بطائفة مُشْرِقَةٍ من صُوَر بَذْلِ المسلمين وتَضحِيَتِهِم رَآها بِعَيْنَيه، وسَمِعَها بأذُنَيه.
فقد رأَى نسـاءَ المُهاجِرِين والأنْصارِ يُقْبِلْنَ على رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْزَعْنَ حُلِيَّهنَّ ويُلْقِينَه بَيْنَ يَدَيْهِ لِيُجَهِّزَ بِثَمَنِه الجَيشَ الغازِيَ في سبيل اللّه.
وأبصرَ بعَيْنَيْ رأسِه عثمانَ بنَ عَفَّان يأتي بِجِراب فيه ألْفُ دينارٍ ذَهَباً، ويقدِّمُه للنبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ.
وشَهِدَ عبدَ الرحمن بنَ عَوف يَحْمِلُ على عاتِقِه مائتي أوقِيَّةٍ من الذَّهَبِ ويُلْقِيْها بين يَدَي النبيِّ الكريم.
بل إنَّه رأى رجلاً يَعْرِضُ فِراشَه للبَيْع لِيَشْتَرِيَ بِثَمَنِه سَيفاً يُقاتلُ به في سبيلِ اللّه.
فَأخَذَ عُمَيْرٌ يَسْتَعيدُ هذه الصُّوَرَ الفَذَّةَ الرائِعَةَ، ويَعْجَبُ من تباطُؤ الجُلاس عن الاسْتِعْدادِ للرَّحيلِ مع الرسولِ صلواتُ اللّه وسلامه عليه، والتأخّرِ عن البَذْل على الرغم من قدرته ويَسَاره .
وكأنَّما أرادَ عُمَيْرٌ أنْ يَسْتَثيرَ هِمَّةَ الجُلاسِ ويَبْعَثَ الحَمِيَّةَ في نَفْسِه بم فاخَذَ يَقُصُّ عليه أخبارَ ما سَمِعَ ورأى وخاصَّةً خَبَرَ أولئك النَّفَرِ من المؤمنين الذين قَدِموا على رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم ، وسألوه في لَوْعَةٍ أنْ يَضُمَّهُمْ إلى الجيش الغازي في سبيل اللّهِ فَرَدَّهم النبيُّ لأنَّه لم يَجِدْ عِنْدَه من الرَّكائبِ ما يَحْمِلُهم عليه، فَتوَلَّوا وأعيُنُهُمْ تفيضُ من الدَّمْع حَزَناً ألاَّ يَجِدوا ما يُبلِّغُهُمْ أمْنِيَتّهَمْ في الجهاد، ويُحقِّقُ لهم أشواقَهُمْ إلى الاستِشْهادِ.
لكنَّ الجُلاسَ ما كادَ يَسْمَعُ من عُمَيْرٍ ما سَمِعَ حَتَّى انطلقت من فَمِه كلمة أطارتْ صوَابَ الفَتَى المؤمِن.
إذْ سَمِعَهُ يقول: "إنْ كان محمدٌ صادقاً فيما يَدَّعيه من النُبوَّةِ فَنَحْن شَر من الحَميِرِ".
***
لقد شُدِه عُمَيرٌ مِمَّا سَمِعَ؟ فما كان يَظُنُّ أنَّ رجلاً له عقل الجُلاسِ وسِنُّه تَنِدُّ من فَمِهِ مثلُ هذه الكلمةِ التي تُخْرِجُ صاحبها من الإيمان دفعةً، واحدةً وتُدْخِلُه في الكفرِ من أوْسَع أبوابه.
وكما تَنْطلقُ الآلاتُ الحاسِبَةُ الدقيقةُ في حِسابِ ما يُلْقَى إليها من المسائل، انطلق عَقْلُ الفَتَى عُمَيْرِ بنِ سعدٍ يُفَكِّر فيما يجب عليه أن يصنعه.
لقد رأى أنَّ في السكوتِ عن الجُلاسِ والتَّسَتُّرِ عليه خيانةً للّهِ ورسولِه، وإضراراً بالإسلام الذي يَكيدُ له المنافقون ويأتمرون به .
وأنَّ في إذاعةِ ما سَمِعَـه عقوقاً بالرَّجُلِ الذي يَنْزِلُ من نَفْسِـه منْزِلَةَ الوالد، ومجازاةً لإحسانه إليه بالإساءةِ؛ فهو الذي آواه من يُتْم وأغْنَاهُ من فقر وعوّضه عن فَقْدِ أبيه.
وكان على الفتى أنْ يَخْتَارَ بَيْنَ أمْرَيْنِ أحْلاهُما مُرٌّ . وسرعان ما اختارَ...
فالتفتَ إلى الجُلاسِ وقال: واللّه يا جُلاسُ ما كانَ على ظَهْرِ الأرضِ أحدٌ بعْدَ محمد بنِ عبدِ للّه أحَبَّ إليَّ مِنْكَ.
فأنت آثرُ الناس عندي، وأجلُّهم يداً علَّي، ولقد قُلْتَ مَقَالةً إن ذَكَرْتُها فَضَحْتُكَ، وإنْ أخْفَيتُها خُنْتُ أمانتي وأهْلكْتُ نفسي وديني، وقد عزمتُ على أنْ أمْضِيَ إلى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وأخْبِرَه بما قلت، فكن على بَيَنّةَ من أمرك.
***
مضى الفتى عميرُ بنُ سعدٍ إلى المسجدِ، وأخبرَ النبيَّ عليه الصلاةُ والسلامُ بما سَمِعَ من الجُلاسِ بن سُوَيْدٍ .
فاسْتَبْقاه الرسولُ صلواتُ اللّه عليه عنْدَه، وأرسلَ أحَد أصحابِه ليَدْعُوَ له الجُلاسَ.
وما هو إلا قليل حَتَّى جاءَ الجُلاسُ فَحَيّا رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم ، وجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْه، فقال له النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ:
(ما مَقالة سَمِعَها مِنْكَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ ؟!) وذَكَرَ لَهُ ما قَالَهُ.
فقال: كَذَبَ علَّي يا رسولَ اللّه وافْتَرَى، فما تَفَوَّهْتُ بِشيءٍ من ذلك.
وأخَذَ الصَّحَـابَةُ يُنَقِّلون أبصارَهم بين الجُلاسِ وفَتَاه عُمَيْرِ بن سَعْدٍ كأنهم يريدون أن يَقْرَؤوا على صَفْحَتَي وَجْهَيْهما ما يُكِنّه صدراهما.
وجعلوا يَتَهامَسون: فقال واحِدٌ من الذين في قلوبِهم مَرَضٌ: فتًى عاق أبى إلا أنْ يُسِيءَ لِمَنْ أحسَنَ إليه.
وقال آخرون: بَل إنَّه غلام نَشَأ في طاعةِ اللّه، وإنَّ قَسَمَات وَجْهِه لَتَنْطِقُ بِصِدْقِه.
والتَفَتَ الرَّسولُ صلواتُ اللّهِ عليه إلى عمَيْرٍ فَرَأى وَجْهَهُ قد احتَقَنَ بالدَّمِ، والدُّموعُ تَتَحَدَّرُ مِدْراراً مِنْ عَيْنًيه، فتتساقَطُ على خَدَّهِ وصَدْرِه وهو يقول:
اللَّهُمَّ أنزِلْ على نَبيِّكَ بَيَانَ ما تَكلَّمْتُ به...
اللَّهُمَّ أنزِلْ على نَبيِّكَ بَيَانَ ما تَكلَّمْتُ به...
فانْبَرَى الجُلاسُ وقال: إنَّ ما ذكرتُه لك يا رسول اللّهِ هو الحقُّ، وإن شِئْتَ تحالَفنا بَيْنَ يديك.
وإني أحْلِفُ باللّه أني ما قلتُ شَيئاً مِمَّا نَقَلَه لك عُمَيْر.
فما إنْ انتهى من حَلِفهِ وأخَذَتْ عيونً الناسِ تَنْتَقِلُ عنه إلى عمير بنِ سعدٍ حتى غَشِيَتْ رسولَ اللّهِ صـلواتُ اللّه وسلامُه عليه السكينةُ، فعرَفَ الصحابةُ أنهُ الوَحيُ، فَلَزِموا أماكِنَهم وسَكَنَتْ جوارحُهم ولاذوا بالصَّمتِ وتَعَلَّقَتْ أبصارُهم بالنبيِّ عليه الصلاة والسلام.
وهنا ظَهَرَ الخَوفُ والوَجلُ على الجُلاس، وبَدَا التَّلَهُّفُ والتَّشَـوُّفُ على عُمَيْرٍ . وظَلَّ الجميعْ كذلك حَتَّى سُرِّي عن رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَتَلا قولَه جَلَّ وعَزَّ: { يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا ولَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِم } إلى قوله تعالى: { فإنْ يَتُوبوا يَكُ خيراً لهم وإنْ يَتَولَّوا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أليماً }.
فارتَعَدَ الجُلاسُ من هَوْلِ ما سَمِعَ، وكادَ يَنْعَقِدُ لِسَانُه من الجزع، ثُمَّ التَفَتَ إلى رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وقال: بل أتوبُ يا رسولَ الله ... بل أتوب...
صدق عميرٌ - يا رسول اللّه- كنتُ من الكاذبين.
اسْألِ اللّهَ أن يَقْبَلَ تَوْبَتِي، جُعِلْتُ فِدَاكَ يا رسولَ اللّهِ.
وهنا تَوجَّه الرسولُ صلواتُ اللّهِ عليه إلى الفتى عمير بنِ سعدٍ ، فإذا دُمُوعُ الفَرَح تُبَلِّلُ وَجْهَهُ المشرِقَ بنورِ الإيمانَ.
فمدَّ الرسولُ يَدَه الشريفةَ إلى أذنه وأمسكَها بِرِفْق وقال: (وَفَّت أذُنُكَ- يا غلامً- ماسَمِعَتْ، وصَدَّقَكَ رَبُّك).
عاد الجُلاسُ إلى حَظِيرَةِ الإسلامِ وحَسُنَ إسلامُه.
وقد عَرَفَ الصحابةُ صلاحَ حالِه مِمَّا كان يُغْدِقه على عميرٍ من بِرٍّ . وقد كان يقولُ كُلَّما ذُكِرَ عمير: جزاه اللّه عَنِّى خيراً، فقد أنقذقني من الكُفْرِ، وأعتَقَ رَقَبَتي من النار.
وبَعْدُ فليست هذهِ أوضأ صورةٍ في حياةِ الغلامِ الصَّحابيِّ عُمَيرِ بنِ سَعْدٍ ، ولا أشدَّها تَألقا.
وإنَّما في حَيَاتِه من الصُّورِ ما هو أزْهَى وأجْمَلُ.
فإلى لقاءٍ آخرَ مَعَ عُميرِ بنِ سعدٍ في شبابه (*)
***
" لكم وددت أن لي رجالاً مثل
عمير بن سعد لأستعين بهم في أعمال المسلمين ".
[ عمر بن الخطاب ]
وَقَفْنَا آنِفاً على صورة فذَّةِ وَضيئَةٍ من حياةِ الصحابيّ الجليلِ عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ في صِغَرِه، فَتَعالَوا نَقِف الآن على عورة رائعة مشرقةٍ صِتْ حَيَاتِه في كِبَرِه، وسَتَجِدون أن الصورةَ الثانيةَ لن تقل عن الأولى جلالا وبهاءً.
***
كان أهلُ "حِمْصَ " شديدي التذَمّرِ مِنْ وُلاتهم، كثيري الشَّكْوى منهم، فما جاءهم من وال إلا وجدوا فيه عيوباً، وأحْصَوْا له ذُنُوباَ، و رَفَعوا أمْرَه إلى خليفةِ المسلمين، وتَمَنَّوا عليه أن يُبْدِلَهُمْ به من هو خيرٌ منه.
فَعزَمَ الفاروقُ رِضْوانُ اللّهِ عليه أن يَبْعَثَ إليهم بوالٍ لا يجدون فيه مَطْعناً ولا يَرَوْنَ في سيرَتِه مَغْمَزاً .
فَنَثَرَ كِنَانَةَ رجاله بَيْنَ يَدَيْه، وعَجَمَ عِيدانها عوداً عوداً، فلم يجد خيراً من عُمَيْرِ بن سعدِ.
وعلى الرَّغمِ مِنْ أنَّ عُمَيْراً كان إذ ذاك يَضْرِبُ في أرضِ الجزيرَة مز، بلاد الشَّـامِ على رَأسِ جَيْشِه الغازي في سبيل اللّهِ، فَيُحرِّرُ المُدُنَ وَيَدُكُّ المعاقلَ ، ويُخْضِعُ القبائِلَ، ويُمغُ المساجِدَ في كلِّ أرْض وَطِئَتْها قَدَمَاه.
على الرَّغْمِ مِن ذلك فقد دعاه أميرُ المؤمنين وعَهِدَ إليه بولايةِ"حمص "، وأمَرَه بالتَّوَجُّهِ إليها، فاذْعَنَ للأمْرِ على كُرْهٍ مِنْه لأنه كانَ لا يًؤثِرُ شيئاً على الجهاد في سبيلِ اللّهِ.
***
بَلَغ عُمَيْرٌ "حِمْصَ " فدعا النَّاسَ إلى صلاةٍ جامِعَةٍ .
ولما قُضِيَتِ الصَّلاةُ خَطَبَ النَّاسَ، فَحِمَدَ اللّهَ وأثنَى عليه، وصلى على نَبِيِّه محمد ثم قال:
" أيها الناسُ، إنَّ الإسْلامَ حِصنٌ مَنِيعٌ وباث وَثِيقٌ ، وحِصْنُ الإسلامِ العَدْلُ وبابُه الحَقُّ.
فإذا دُكَّ الحِصْنُ وحُطِّمَ البابُ اسْتُبيحَ حِمَى هذا الدِّينِ.
وإنَّ الإسْلامَ ما يزالُ مَنيعاً ما اشْتَدَّ السُّلْطان.
ولَيْسَتْ شِدَّةُ السُّلطانِ ضرباً بالسَّوْط ولا خَملاً بالسَّيفِ ولكِنْ قَضَاءً بالعَدْلَ وأخْذاً بالحَقِّ ".
ثم انْصرَفَ إلى عَمَلِه لِيُنَفِّذَ ما اختطه لهم من دستور في خطبته القصيرَةِ.
***
قَضَى عُمَيْرُ بن لسَعْدٍ حَوْلاً كامِلاً في "حِمْصَ " لم يَكْتُبْ خِلاله لأمير المؤمنين كِتاباً، ولمْ يَبْعَثْ إلى بيتِ مالِ المُسْلمينَ من الفَيءِ دِرْهماً ولا ديناراً، فأخَذَتِ الشُّكُوكُ تساور عُمَرَ إذْ كانَ شديدَ الخَشْيَةِ على وُلاتِه من فِتْنَةِ الإمارَة، فلا مَعْصومَ عِنْدَهُ غَيْرُ رسولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم .
فقال لِكَـاتِبِه: اكْتُبْ إلى عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ وقُلْ له: إذا جاءَكَ كِتابُ أمِيرِ المؤمنين فَدَع حِمْصَ وأقْبِلْ عليه، واحْمِلْ مَعَكَ ما جَبَيْتَ مِنْ فَيءِ المسلمين.
***
تلقَّى عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ كتاب عُمَرَ رضى اللّه عنـه وعن عمير، فأخَذَ جِرَابَ زاده وَحَمَلَ على عاتِقِه قَصعَتَه ووعاءَ وضوئه، وأمْسَك، بيده حَرْبَتَه، وخَلَّف حِمْصَ وإمارتها وراءه، وانْطَلَقَ يَحُثُّ الخطا- مشياً على قَدَمَيه- إلى المدينة.
فما كادَ يَبْلُغ عمَيرٌ المدينةَ حتى كان قد شحَبَ لونُه، وهزُل جِسْمُه وطال شَعْرُه، وظَهَرَتْ عليه وعَثْاءُ السَّفَرِ.
***
دَخَلَ عُمَيْرٌ على أميرِ المؤمنين عُمَرَ بنِ الخَطابِ، فَدُهِشَ الفاروق من حالَتِه وقال:
ما بكَ يا عُمَيْر؟!
فقال: ما بي من شيءٍ – يا أمير المؤمنين- فأنا صَحيحٌ مُعافًى- بحمد اللّه- أحْمِلُ معي الدنيا كُلَّها وأجُرُّها من قَرْنَيْها.
فقال: وما معك من الدنيا؟ (وهو يَظُنُّ أنَه يحْمِلُ مالاً لِبـيْتِ مالِ المُسْلِمين) .
فقال: معي جِرابي وقد وضعت فيه زادي.
ومعي قصعتي آكلُ فيها وأغْسِلُ عليها رَأسي وثيابي.
ومعي قِربَة لِوُضوئي وشرابي.
ثم إنَّ الدنيا كُلَّها- يا أميرَ المؤمنين- تَبَعٌ لمتاعي هذا، وفُضلةٌ لا حاجَةَ لي ولا لأحد غيري فيها.
فقال عمر: وهل جئت ماشياً؟!
قال: نعم يا أمير المؤمنين.
فقال: أما اُعطيتَ من الإمارة دابَّةً تركَبُها؟
فقال: هم لم يعطوني، وأنا لم أطلب منهم.
فقال: وأينَ ما أتُيْتَ بهِ لِبَيْتِ المالِ؟
فقال: لم آتِ بِشيءٍ .
فقال: ولم؟!
فقال: لما وَصَلْتُ إلى حِمْصَ؟ جَمعْتُ صلحاء أهلها، ووليتم جمْعَ فَيْئهم، فكانوا كُلما جمعوا شيئاً منه؟ استشَرْتُهم في أمره، ووضعته في مواضعه، وأنفقتُه على المُستَحِقِّين منهم.
فقال عمر لكاتبه: جَدِّد عهداً لِعُمَير على وِلايةِ حِمْص.
فقال عمير: هيهات ... فإن ذلك شَيء لا أريده، ولَن أعْمَلَ لَكَ ولا لأحدٍ بَعْدَكَ يا أميرَ المؤمنين.
ثم استأذَنَهُ بالذَّهاب إلى قَرْيَةٍ في ضواحي المدينَةِ يُقيم بِها أهْلُه، فأذنَ له.
***
لم يَمْضِ على ذهاب عُمَيْرٍ إلى قَرْيَته وقتٌ طويل حتى أراد عُمَرُ أنْ يَختَبِرَ صاحبه، وأن يَسْتَوثقَ من أمْرِه؟ فقال لواحدٍ من ثِقَاتِه يدعى الحارثَ:
انطلق يا حارثُ إلى عُمَيْرِ بنِ سعد، وانْزِل به كأنّكَ ضَيْف، فإن رَأيتَ عليه آثارَ نِعْمَةٍ ؟ فَعدْ كما أتيت.
وإن وَجدْتَ حالاً شديدَةً فأعطِه هذه الدنانير، وناوَله صُرِّة فيها مائة دينارٍ .
***
انطلق الحارثُ حتى بلغ قريةَ عُمَيْرِ بن سَعْدٍ ، فَسَأل عنه فَدُلَّ عليه.
فلمَّا لقيه قال: السلامُ عليك ورحمة الله.
فقال: وعليك السلامُ ورحمةُ اللّه وبرَكاته، من أين قَدمت؟
فقال: من المدينة.
فقال: كيفَ تَرَكتَ المسلمين؟
فقال: بِخَيْر.
فقال: كيف أميرُ المؤمِنين؟
فقال: صَحِيح صالِحٌ .
فقال: أليس يُقيمُ الحدود؟!
قال: بلى، ولَقَدْ ضَرَبَ ابناً له لِفاحِشَةٍ أتاها، فَماتَ من الضَّرب.
فقال: اللَّهمَّ أعِنْ عُمَرَ، فإني لا أعْلَمُه إلا شديدَ الحُبِّ لك.
***
أقام الحارِثُ في ضيافَةِ عُمَيْرِ بنِ سعدٍ ثلاثَ لَيال، فكانَ يُخْرِجُ له في كلِّ لَيْلَةٍ قُرْصاً من الشعير.
فَلَمَّا كانَ اليومُ الثالِثُ، قال للحارِثِ رَجُل من القوم: لقد أجْهَدْتَ عُمَيْراً وأهله؟ فَلَيْسَ لهم إلا هذا القُرْصُ الذي يُؤثِرونك به على أنفُسِهِمْ، وقد أضرَّ بهمُ الجوعُ والجَهْدُ، فإنْ رأيت أن تتحوَّلَ عَنْهُم إليَّ فافْعَلْ.
***
عند ذلكَ أخرَجَ الحارِثُ الدَّنانيَر، ودَفَعها إلى عمَيْر.
فقال عُمَيْر: ما هذه ؟!!
فقال الحارِثُ: بَعَثَ بِها إليكَ أميرُ المؤمنين.
فقال: رُدَّها إليه، واقْرَأ عليه السَّلامَ، وقُل له: لا حاجَةَ لِعُمَيْرٍ بها.
فصاحَتْ امرأته- وكانَتْ تَسْمَعُ ما يدور بينَ زَوجِها وضيفِه- وقالت: خُذْها- يا عُمَيْرُ- فإن احتَجْتَ إليها أنفقتَها، وإلا وضعْتَها في مَوَاضِعِها، فالمحتَاجُون هنا كثير.
فلما سَمِعَ الحارِث قَوْلَها؟ ألْقَى الدَّنانيرَ بَيْنَ يَدَيْ عُمَيْر وانْصرَف، فأخَذَها عمير وجَعَلَها في صُرَرٍ صغيرةٍ ولم يَبِتْ لَيْلَتَه تِلْكَ إلا بَعْدَ أن وزَّعها بَيْنَ ذوِي الحاجاتِ، وخَصَّ مِنْهُمْ أبناءَ الشُّهداءِ.
***
عاد الحارِثُ إلى المدينةِ فقال له عمرُ: ما رأيتَ يا حارِثُ؟
فقال: حالاً شديدَةً يا أميرَ المؤمنين.
فقال: أدَفَعْتَ إليه الدنانير؟
فقال: نعم، يا أمير المؤمنين.
فقال: وما صَنَعَ بها؟!
فقال: لا أدْرِي، وما أظُنّه يُبْقى لنَفِسه مِنْها دِرهماً واحداً.
فكَتَبَ الفاروقُ إلى عُمَيْرٍ يقول: إذا جاءَكَ كتابي هذا فلا تَضَعْهُ من يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ علَّى.
***
توجَّه عميرُ بنُ سَعْدٍ إلى المدينة، ودَخَلَ على أميرِ المؤمنين، فَحَيَّاه عُمَرُ ورحَّبَ به وأدنى مَجْلِسَهُ ثم قال له:
ما صَنَعْتَ بالدنانير يا عُمَير؟!
فقال: وما عليكَ مِنْها يا عُمَرُ بعد أنْ خَرَجتَ لي عنها؟!!
فقال: عَزَمْتُ عليك أنْ تُخْبِرَني بما صَنَعْتَ بها؟
فقال: ادَّخَرْتُها لِنَفْسي لأنتَفِعَ بها في يَوم لا يَنفَعُ فيه مالٌ ولا بَنون...
فَدَمَعَتْ عينا عُمَرَ، وقال:
أشْهَدُ انَكَ من الذين يؤثرون على أنفُسِهم ولو كان بهم خصاصة ثم أمرَ له بِوَسق من طعام وثَوبين.
فقال: أمَّا الطعامُ فلا حاجَةَ لَنَا بهِ يا أميرَ المؤمنين، فَقَدْ تَرَكْتُ عندَ أهْلي صَاعَينِ من شَعيرٍ ، وإلى أنْ نأكُلهما يكون اللّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- قد جاءنا بالرزْقِ.
وأمَّا الثَّوْبان فآخُذُهما لأمِّ فُلانٍ (يعني زوجَتَه)، فقد بَلِىَ ثَوْبُها وكادَتْ تَعْرَى.
***
لم يمضِ طويلُ وَقتٍ على ذلك اللِّقاءِ بينَ الفاروقِ وصاحبِه حَتَّى أذِنَ اللّه لِعُمَيْرِ بن سعدٍ بأن يَلْحَقَ بِنَبِيِّه وقُرَّةِ عَيْنه محمدِ بنِ عبدِ اللّه بعد أن طالت أشْواقُه إلى لِقائِه.
فَمَضَى عميرٌ في طريق الاَخرةِ وادِعَ النَّفْسِ، واثِقَ الخَطو، لا يُثْقِلُ كاهِلَهُ شَيء من أحمالِ الدُّنْيا، ولا يؤودُ ظَهْرَه عِبء من أثْقَالها.
مَضَى لَيْسَ معه إلا نورُه وهداه، وَوَرَعُه وتقاه ...
فلما بلغ الفاروقَ نَعْيُهُ وَشَّحَ الحُزْنُ وَجهه، واعتَصرَ الأسى فؤاده وقال:
" وَدِدْتُ أنَّ لي رجالاً مِثْلَ عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ أسْتَعينُ بهم في أعمالِ المسلمين ".
***
رضى اللّه عن عمير بن سعدِ وأرضاه...
فقد كان نمطاً فريداً بينَ الرِّجال...
وتلميذاً مُتَفَوقاً في مدرسةِ محمدِ بن عبد اللّه...